أصعب ما يعقّد الأزمة السورية ويزيد من صعوبات حلها هو حالة الإنكار التي يعتمدها المسؤولون السوريون منذ بداية هذه الأزمة. بدأ الإنكار بنفي الأسباب الحقيقية للأزمة واتهام المعارضين الذين يطالبون بانتقال فعلي إلى نظام ديموقراطي تعددي بأنهم مجموعة من «الإرهابيين المسلحين» لا همّ لهم سوى تقويض سلطة الدولة وسيادتها، تنفيذاً لمخططات خارجية. ووصل الأمر إلى إنكار حقيقة الإجماع الدولي شبه الكامل ضد سلوك النظام، بعد أن وضعت معظم الدول أسماء أبرز المسؤولين فيه على اللائحة السوداء التي تمنعهم من السفر إلى هذه الدول كما تمنع التعامل معهم سياسياً أو مالياً. وكان رد النظام السوري على هذه المواقف بحذف قارات بكاملها من الخريطة، كما كان مصير القارة الأوروبية على يد وزير الخارجية وليد المعلم. ووصل هذا الإنكار اليوم إلى ابتكار قراءة مختلفة للقرار الدولي الأخير الذي يسمح بإرسال المراقبين الدوليين إلى سورية وينظم عملهم، وزعم المسؤولين السوريين أن هذا القرار لا يشكل تهديداً لسيادة الدولة، مع أن فرض الرقابة الدولية على سلوك أي نظام حيال مواطنيه يتضمن في الأساس تشكيكاً في سلامة هذا السلوك وفي عمل الأجهزة الأمنية التابعة للنظام من جهة، كما يضع هذا النظام في غرفة العناية الفائقة، بحيث يحتاج إلى تعامل استثنائي لا ينطبق في العادة على الأنظمة التي يعتبر سلوكها مع مواطنيها طبيعياً ومقبولاً حسب المعايير الدولية. ومهما بالغ المسؤولون السوريون في اعتبار أن هذا القرار لمصلحتهم، لأنه سيكشف المسؤولين عن «رصد الانتهاكات ضد المواطنين ومؤسسات الدولة»، كما قالت المستشارة في الرئاسة السورية بثينة شعبان، فان مجرد مطالبة القرار بسحب القوى الأمنية والآليات العسكرية للنظام من المدن والتجمعات السكنية كأول شرط لوقف أعمال العنف في سورية هو في حد ذاته انتقاص من سيادة الدولة على أراضيها، إذ أنه يحمّلها المسؤولية الأولى عن أعمال العنف القائمة. فالنظام في أية دولة يتمتع في العادة بحق نشر قواته حيثما يشاء على أرضه، ولا يختلّ هذا الحق وتصبح هذه القوات عرضة للرقابة إلا عندما تقدم على ارتكاب مخالفات جسيمة في حق مواطنيها، أو عندما تصبح متهمة بأنها «قوات احتلال»، كما هو الاتهام الموجه من قبل المعارضة وأكثرية المجتمع الدولي إلى قوات النظام السوري. يخترع المسؤولون السوريون سيناريوات خاصة بهم لإدارة الأزمة وتفسير أسبابها وتحليلها، ثم يصدقون هذه السيناريوات التي اخترعوها. لكن اختراعات كهذه لا تلغي الحقائق ولا تضمن أن يصدقها كل الناس. وهكذا فقد رد الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون على زعم السلطات السورية بأنها يجب أن تعرف مسبقاً بتحركات المراقبين بحجة ضمان أمنهم، فقال إن حرية تنقل المراقبين والسماح لهم بإجراء اتصالاتهم من دون عراقيل وضمان وصولهم إلى من يشاؤون من أفراد على الأراضي السورية هو من مسؤولية الحكومة السورية التي تتحمل المسؤولية كذلك عن سلامة فريق المراقبين. قد يكون في ذهن المسؤولين السوريين أن يحولوا مهمة العقيد أحمد حميش إلى ما فعلوه مع الفريق محمد الدابي، الذي كانت تحركاته هو وفريق المراقبين العرب بمعرفة وتحت عيون السلطات الأمنية وأجهزة استخبارات النظام. لكن دمشق تخطئ كثيراً هذه المرة، إذا تعاملت مع القرار الدولي الأخير كما تعاملت مع المبادرة العربية. من المهم الانتباه إلى أن القرار 2042 وضع الأزمة السورية تحت أنظار العالم، ولم تعد أزمة عربية فقط، وهو ما حاولت القيادة السورية تجنبه منذ البداية بحجة حرصها على «الحل العربي». ومن المهم أيضاً قراءة معنى التصويت الروسي والصيني إلى جانب هذا القرار قراءة صحيحة. صحيح أن هذا القرار ساوى بين مسؤولية النظام ومسؤولية المعارضة عن أعمال العنف، وطالبهما معاً بوقفه، ولكن القراءة الدقيقة لبنوده تؤكد مسؤولية قوات النظام وأجهزته بالدرجة الأولى عن وقف الأعمال الحربية، ما يعني أن القوى الأخرى لا تمارس سوى الرد على أعمال النظام. يضاف إلى ذلك أن القرار يعيد التذكير ببنود خطة كوفي أنان، ومن بينها ضرورة الانتقال إلى «عملية سياسية تلبي الطموحات المشروعة للشعب السوري»، أي أن تلبية هذه الطموحات هي السبيل للخروج من الأزمة، وليس تنظيف المدن السورية من «الإرهابيين المسلحين».