لا بدَّ لكل دولة من هوية، فما هي هوية الدولة العراقية بعد 2003؟ لا توجد إجابة محدّدة، لأن الوضع العراقي برمته ما زال معوّماً، كما أن تكريس «المحاصصة» الذي أدى عملياً إلى تعطيل الدستور ومبدأ تكافؤ الفرص، خلق صراعات غير مجدية بين الأحزاب المتنافسة على المغانم، آخرها ما يجري الآن بين حكومتي المركز والإقليم. كل هذا يجعل من الصعب تكوين ملامح سياسية محددة للدولة القائمة. إن عدم وجود هوية للنظام الجديد، لا يعني أن هوية النظام السابق كانت أمراً يُعتد به أو يُتحسر عليه، بل إن ما فعلته ديكتاتورية صدام هو كسر شوكة المجتمع السياسي العراقي وتشتيته، بحيث ما عاد من السهل تشكيل طبقة سياسية فاعلة بعد سقوطه. ولذلك نجد غالبية متصدّري الواجهة بعد 2003 ليس لهم حضور أو تاريخ سياسي يُعتد به، فهم إما حملة شهادات مزورة، أو سياسيون منفيون عاشوا في ظل استخبارات النظامين السوري والإيراني، لذلك بقي خيالهم السياسي أسير الحس الأمني وأساليب نهب المال العام الشائعة في البلدين، فأسسوا نظاماً فاسداً على نفس الغرار! لنتساءل ثانيةً، ما هي هوية الدولة العراقية؟ هل هي دولة دينية؟ طبعاً لا. لأنه لا يوجد دين يبيح الفساد والشهادات المزوَّرة! هل هي نظام طائفي؟ لا، أيضاً. لأن محافظات الفرات الأوسط والجنوب التي دفعت أثماناً باهظة خلال حقبة الديكتاتورية، وتنفّست الصعداء بعد سقوط الصنم في 9/4/2003 لم تحصد سوى المر من حكم الأحزاب الدينية التي سرعان ما تحوّلت إلى مافيا فساد بعد صعودها على أكتاف هؤلاء المظلومين! والمفارقة أن المسؤولين المحلّيين في المحافظات الغربية، حيث الغالبية السنية، عندما احتجّوا عارضين مظلومية مواطنيهم وانعدام الخدمات، كان جواب حكومة بغداد: لستم وحدكم، المحافظات الشيعية تعاني الأزمات نفسها! وكأن ظلم الحكومة للمحافظات الشيعية يستدعي ظلم المحافظات السنيّة أيضاً! وهذا ما خلق صدمة سياسية دفعت بالمحافظات الغربية للمطالبة بالأقاليم. لنتساءل أيضاً، هل ينطبق توصيف الدستور الجديد على الدولة حقاً؟ يقول الدستور: «الباب الأول: المبادئ الأساسية. المادة 1: جمهورية العراق دولة اتحادية واحدة مستقلة، ذات سيادة كاملة، نظام الحكم فيها جمهوري نيابي ديموقراطي»، لكن في الواقع لا توجد في العراق دولة اتحادية واحدة، أي فيديرالية كالولايات المتحدة أو ألمانيا الإتحادية أو سويسرا، فبالنسبة لإقليم كردستان هو دولة داخل الدولة. لأن الدولة الاتحادية يحق لجيشها وأجهزتها الأمنية التحرك في جميع المحافظات، لكن في العراق لا يحق لقوات الدفاع والداخلية الاتحاديتين الدخول لأراضي الإقليم! بينما تدخل قوات «البيشمركة» خلافاً للقانون، في كركوك والموصل وديالى بذريعة «المناطق المتنازع عليها»، وهذا تعبير عراقي لا وجود لمثله في أي دستور آخر، لأن المناطق المتنازع عليها تكون عادةً بين دول متحاربة! إن إقليم كردستان دولة داخل الدولة، فالحكومة الاتحادية تدفع لحكومة الإقليم 17 في المئة من الموازنة السنوية خلافاً لتقديرات الأممالمتحدة التي جعلت حصة الإقليم 13 في المئة، لكن صفقة تمت بين الأحزاب الدينية وبين أحزاب الاقطاع السياسي الكردي، زادت حصة الإقليم 4 في المئة مقابل صمت الأحزاب الكردية على الفساد المالي والسياسي في بغداد، وهذا النوع المغشوش من الصفقات السياسية غير المُعلَنة هو الذي يقف وراء الأزمات بين المركز والإقليم. إن سلطة الإقليم تطالب دائماً بالعودة للدستور لحل الأزمات بينما يُهّدد بعض رموزها بإعلان الاستقلال بين وقت وآخر! وأخيراً قال مسعود برزاني خلال الاحتفال بالذكرى ال66 لتأسيس جمهورية مهاباد «إن الوقت اصبح مناسباً لممارسة عملية تقرير المصير بالنسبة للكرد... إن المنطقة تشهد مرحلة من التحولات السريعة وعلينا أن نستعد جيداً لها، مشدّداً على ان الوقت قد حان لممارسة حق تقرير المصير»! فكيف تستقر هوية الدولة الواحدة وسط هذا النوع من السياسات المتناقضة؟ لنواصل القراءة: «المادة 2 – أولاً: الإسلام دين الدولة الرسمي، وهو مصدر أساس للتشريع: أ - لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام. ب – لا يجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديموقراطية. ج – لا يجوز سن قانون يتعارض مع الحقوق والحريات الأساسية الواردة في هذا الدستور». المعروف أن في العراق مسيحيين وصابئة ويزيديين وفئات غير متدينة، فكيف تُطبَّق عليهم «ثوابت أحكام الإسلام»؟، وماذا لو تعارضت معتقداتهم مع تلك «الثوابت»؟! وفي حال حدوث خلاف، إلى أية فقرة نحتكم، إلى (أ) أم (ب)؟ وعلى أي أساس نُفضل هذه على تلك؟! وإذا كانت كتابة الدستور تحتاج الى نخبة من الخبراء المتخصصين، فإن الذين وضعوا الدستور العراقي، وهم مسؤلو أحزاب كردية ودينية، لا علاقة لهم بعلم الدستور أو فقه الدستور، لذلك ورّطوا الدولة والمجتمع بدستور يختلط فيه الحابل بالنابل. ولم تخطر على بالهم الإستعانة بخبراء في الدستور، لأن كل واحد منهم، يعتقد بأنه عبقري استثنائي لذلك أسّسوا دولة بلا هوية، ونظاماً من دون ظوابط قانونية تحدّ من الفساد وتسيطر عليه، فأصبحنا في دولة يهيمن عليها الفاسدون ولا أحد يستطيع مقاضاتهم! لذلك ساد اليأس والاحباط عموم العراقيين لدرجة ماتت معها قرائح الشعراء، فمنذ أيام «مجلس الحكم» تُكرّر الجهات الرسمية دعوة شعراء العراق لكتابة نشيد وطني ل «العراق الجديد» لكنَّ أحداً من الشعراء لم يتمكن من كتابة تلك الأبيات القليلة رغم المكافأة المجزية مادياً ومعنوياً! وهذه إشكالية لم يفسرها أو يناقشها أحد! إنه الإحباط الجماعي المصحوب بالقهر جراء تسلّط أحزاب دينية رخيصة، أحزاب لم تسرق المناصب والمال العام فقط، بل سرقت حلم العراقيين في تحقيق العدالة، الحلم الذي دفعنا ثمنه غالياً، سجوناً وتشريداً ومقابر جماعية، وبدا الحلم قريباً لحظة سقوط الصنم، لكنّهم سرقوه! سرقوا بلاداً بأكملها، فكيف يكتب الشعراء نشيداً لوطن مسروق؟ لقد تم تعميم القهر من جديد ولا بدَّ من الاستعداد للمواجهة، لا بدّ من معارضة مختلفة، فثمة طغاة جُدد ينتظرون الهزيمة. * كاتب عراقي