عندما اشتغل محمد علي أتاسي على فيلم «بلدنا الرهيب»، لم يكن يتوقع أن تكون سورية «رهيبة» الى حد لا تستطيع الصحف نشر صور سوريين قتلوا بأيد سورية. أشلاء «البراميل المتفجرة»، جثث ماتت تعذيباً، رؤوس عناصر الجيش السوري معلقة على أسوار موقع عسكري. لم يكن الخيال قادراً على بلوغ هذا الحد من العنف والعنف المضاد. وعندما رافق ياسين حاج صالح «الحياة» بين «استبدادين»، بدءاً من دمشق في «سورية المفيدة»، إلى الغوطة الشرقية «المحررة»، وصولاً إلى مدينة الرقة تحت سلطة «خلافة» تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش)، لم يكن يتوقع وصول مسقط رأسه الرقة الى هذا الحد من تطبيق «حدود الشريعة». أما زياد حمصي، الذي بدأ «متظاهراً» في دوما شرق دمشق في 2011، لم يكن يتوقع أن ينتهي «لاجئاً» جنوبتركيا بعدما تدرج في مراتب ارتقاء كتلة من السوريين، من «ناشط» إلى «ناطق إعلامي» ثم «مقاتل في الجيش الحر». ينتمي الثلاثة إلى أجيال ثلاثة. محمد علي ابن الرئيس الأسبق نور الدين الأتاسي الذي توفي بعد اعتقاله 22 عاماً. ياسين معتقل سياسي لنحو 16 سنة. زياد معتقل سابق وابن معتقل سياسي لنحو 13 سنة. أراد ياسين أن يرى تفاصيل «كيف سورية تتغير»، أن يعيش في «الأراضي المحررة»، فانتقل من العاصمة إلى دوما في الغوطة الشرقية. أراد محمد علي أن يسجل «يوميات مثقف في زمن الثورة». أما زياد، فأراد أن يعيش من قرب مع «حكيم» وأن يعيش... «الثورة». جمعهم فيلم «بلدنا الرهيب» الذي نال الجائزة الأولى في «مهرجان مرسيليا الدولي» الفرنسي قبل أيام. طلب محمد علي من زياد تصوير يوميات دوما يعيش فيها «مثقف» شاءت القرارات أن يكون مع زوجته سميرة والحقوقية رزان زيتونة بين الدمار والحماس. حاولوا إقامة علاقة طليعية مع محيطهم، يقول إنه لا يمكن القبض على مكان «تتجاور فيه الحياة والموت بهذا القدر». هنا خيمة لعلاج الجرحى وإحصاء القتلى وثلاجة للأشلاء. وهنا أيضاً، أرض صغيرة زرعت بالخضار لتخفيف مصاعب المعيشة بسبب الحصار الذي فرض على المنطقة. «تجرأ» أكثر مع رفاقه النشطاء وقاد تحت العدسة حملة لتنظيف شوارع دوما. اصطدموا بالجدار الأول. يقترب رجل ملتح من الكاميرا طالباً من الناشطات ارتداء الحجاب وتغطية شعرهن، وعندما يُسأل عن تصرفاتهن وتنظيفهن الشوارع، يحيل الإجابة الى الله: «المحبة من عند الله. الله يستر عليهن». تنتقل كاميرا زياد، الذي قام بالتصوير، مع رحلة الانتقال مع ياسين من غوطة دمشق الى شمال شرقي سورية مروراً بالبادية تحت حرارة ملتهبة وفوق رمال الجمر. لا تهمل العدسة كيفية تواريهم عن القصف والشمس بغطاء بلون التراب كانت الثقوب المتنفس الوحيد من الحر والطريق إلى اوكسجين ثقيل. بعد رحلة شاقة، يصل ياسين إلى مسقطه في الرقة التي طالما أراد زيارتها. المدينة التي سيطرت عليها المعارضة في آذار (مارس) العام الماضي، كان موعده معها متأخراً، بل إنه لم يستطع التجول في شوارعها وسماع القصص من الناس. بقي فيها شهرين ونصف الشهر منعزلاً بعيداً من ناس طالما أراد اللقاء بهم. يقول: «بدلاً من أن أصل إليها محتفلاً أعيش متوارياً في مدينة محررة. بعد عامين ونصف من الثورة يتحكم أغراب بحياتها وأهلها»، في إشارة إلى مقاتلي «داعش». حُرم من المشي في الخريف في شوارع الرقة فغادر، ليس إلى دمشق بل إلى تركيا. كان زياد أراد العودة إلى أهله في غوطة العاصمة، لكنه وقع في أقفاص «داعش» وبقي على حد السيف لأسابيع. يقول: «في مرحلة ما، هؤلاء الناس لا ينفع معهم إلا السلاح». وهو كان حمل «كلاشنيكوف» ضد الجيش. شاءت الصدف أن يعتقل والد زياد في طريقه مع ياسين الى الرقة، وشاءت أيضاً أن يعتقل شقيق ياسين وهو مع زياد في الرحلة ذاتها. ترابط الأقدار. يقول زياد: «كان عندنا عدو، صار لدينا ألف عدو. في داخلنا عدو لا نعرفه». تنتهي رحلة ياسين (85 دقيقة) في إسطنبول وزياد جنوبتركيا، حيث «المنفى، تجربة الاقتلاع واللجوء والتشتت... على أمل العودة». لم يبق سوى الدموع بعدما تشاركا السجن والهروب والشمس والجوع والخوف والتصميم. يبكي زياد ويشاركه ياسين البكاء من «ألم» قرار الخروج والتمسك ب «إرادة الحياة لأني أريد أن أعيش وأن تعيش وأن نعيش». فرصة لم تحظ بها سميرة ورزان وآخرون خطفوا في دوما. يختم ياسين الفيلم بأنه روى «قصة الخروج السوري الكبير والعودة المأمولة»، وأنه رغم كل شيء فإن «وطننا هذا ليس لنا غيره. أعرف أنه ليس هناك بلد أرأف بنا من هذا البلد الرهيب».