منذ البداية لم تشتغل المعارضة السورية في السياسة، على النحو المناسب، إذ ركّزت على هدف إسقاط النظام، وهذا على أهميته ومشروعيته، لا يعفيها من المسؤولية عن عدم رؤية التعقيدات والتحديات، وربما التدرّجات، التي تواجهها في الطريق إلى ذلك. ومشكلة المبنى السياسي للمعارضة تشمل خطاباتها وطروحاتها، ونمط علاقاتها الداخلية، وفاعلية هيئاتها. هكذا، مثلاً، تمّت الاطاحة بهدفي الحرية والديموقراطية، وبشعار: «واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد»، مع بروز الجماعات العسكرية، التي تتغطّى بالدين، والتي طرحت رؤى مغايرة لمستقبل سورية، من دون أن يبذل «المجلس الوطني»، وبعده «الائتلاف الوطني»، أي جهد للوقوف أمام ذلك، في شكل جدي، لما له من آثار سلبية على صدقية الثورة وصورتها، وعلى إجماعات السوريين، علماً أنها رؤى تتناقض مع الوثائق التي تم التوافق عليها لدى تأسيس هذه الهيئة. ويجدر التذكير هنا بأن بروز هذه الجماعات أثّر سلباً، أيضاً، في مجمل التيارات «الإسلامية»، وضمنها جماعة «الإخوان المسلمين»، التي كانت أصدرت «ميثاق العهد والميثاق» (آذار/مارس2012)، والذي أكدت فيه التزامها قيام دولة مدنية ديموقراطية في سورية، تساوي بين المواطنين، وتضمن الحريات لهم. والمشكلة أن هذه الجماعة، بدل أن ترشّد خطابات الجماعات الإسلامية المسلحة، بدت وكأنها تفضّل الانكفاء، أو السكوت، على رغم إدراكها أن هذه الجماعات ما كان لها أن تحظى بهذا النفوذ، في هذه الفترة القصيرة، لولا الدعم المالي والسياسي، والنفخ الإعلامي الذي تحظى به من الخارج، لا سيما أن هذه الجماعات لم تنشأ، ولم تنمُ في شكل طبيعي ونتيجة حراكات داخلية، في البيئات السياسية للجماعات الإسلامية في سورية. في هذا السياق جرى الاعتراف ب «جبهة النصرة»، كجزء من الثورة، على رغم أنها لا تعترف بها، وعلى رغم تصريحاتها بتبعيتها ل «القاعدة»، ما انسحب، في ما بعد، على «داعش»، التي ذهبت بعيداً جداً من مقاصد الثورة، ومن طموحات السوريين، ومن الواقع والعصر والعالم، في إعلانها الخلافة لأبي بكر البغدادي، وإعلان دولتها في العراق والشام! وعلى صعيد العلاقات الداخلية فقد انشغل المجلس الوطني، وبعده الائتلاف، بالنزاعات الداخلية، وغالبيتها للأسف خلافات شخصية، أو متأتّية من ارتهان الكثير من الكتل والشخصيات المنضوية في الائتلاف إلى جهات عربية ودولية مختلفة، بحيث باتت الهيئة السياسية القيادية في الثورة، بمثابة «ساحة» أخرى للتجاذبات الدولية والعربية حول مستقبل سورية. والمعضلة هنا أن الهيئة الناخبة للمجلس، او للائتلاف، لا تضم احزاباً بمعنى الكلمة، وأنها ذاتها تفتقد معنى التمثيل السياسي أو الشعبي، وأن أياً منها لم يتحوّل، أو يتشكّل، كحزب، وذلك على رغم مرور ثلاثة اعوام على الثورة. الآن، وبناء على عدم الحسم في مشروعها السياسي، وتالياً لذلك غياب القوى الحزبية، يبدو مفهوماً قصور العمل السياسي في إطار المجتمع، لا سيما في المناطق «المحررة»، لجهة ادارة أحواله، وتأمين حاجاته، وتنظيم صموده، إن في مواجهة عنف النظام، أو لوضع حد للفوضى وانهيار شبكة الأمان، ناهيك عن خلق نموذج لواقع افضل في تلك المناطق. المشكلة أن التجربة كانت على عكس ذلك، فالجماعات العسكرية أنشأت هيئاتها «الشرعية»، بقوة السلاح، وقيّدت لجان الإدارة المحلية، أو حاربتها، بل إنها قيّدت الحريات الشخصية والسياسية والإعلامية في مناطقها. وقد شهدنا حالات اعتداء على نشطاء، ضمنها اختطاف رزان زيتونة وسميرة الخليل وناظم حمادي ووائل حمادة، ما خلق حالاً من القلق والتذمّر من هذه الممارسات بين السوريين، اضافة الى المعاناة والعذابات التي يتكبدونها جراء حصار النظام لمناطقهم، وتعمده قصفها بين وقت وآخر. في غضون ذلك، لا يبدو أن قوى الثورة، السياسية والعسكرية، أدركت الأخطار التي باتت تحيق بها، وأولها، خذلان المجتمع الدولي لقضية السوريين، ليس لجهة التدخّل العسكري، أو فرض مناطق آمنة، وإنما حتى لجهة فتح ممرّات لإغاثة المناطق المحاصرة، وإيجاد نوع من الحظر الجوي، الذي يحول دون قيام النظام بقصفها. وقد كان واضحاً، من البداية، أن الأطراف الدولية والإقليمية والعربية الفاعلة غير معنيّة بحسم الأمر في سورية، بقدر ما هي معنية بخلق واقع من الاضطراب، يطغى على وضع الثورة فيها، بحيث لا يسمح للنظام بالاستمرار، ولا يسمح للثورة بالانتصار، لأسباب عدة، ضمنها التخوّف من تداعياتها على محيطها، والحسابات المتعلقة بإسرائيل، واعتبارها جزءاً من المجال الحيوي للنفوذ الإيراني والروسي. وبين هذا وذاك، بات اللعب الخارجي في سورية أكبر من دور أطرافها الداخلية، مع استنزاف وإنهاك النظام والثورة والشعب، الأمر الذي جعل مصير البلد رهناً بتوافقات الفاعلين الخارجيين. أيضاً، لم تبد قوى الثورة الحساسية اللازمة لغياب مجتمع السوريين، وخروجهم من معادلات الصراع ضد النظام، لا سيما منذ تحققت غلبة البعد العسكري للثورة على بعدها السياسي، في صيف 2012، مع السيطرة على أجزاء من حلب وشمالي سورية، وأجزاء من غوطة دمشق وجنوبها. فمنذ تلك الفترة قام النظام بتوجيه ضربات قاسية لمدن السوريين، دمرت أجزاء كبيرة من عمرانهم، وأودت بحياة عشرات الألوف منهم. وقد نجم عن ذلك ترك الملايين لمناطقهم وبيوتهم وتشردهم في مدن أخرى، وفي لبنان والأردن وتركيا ومصر، من دون مورد أو عمل. هكذا تعرّضت الثورة لضربة خطيرة بتعمّد النظام رفع كلفتها، إلى هذا الحد غير المسبوق، لكن في المقابل، فإن الثورة لم تبد إدراكاً مناسباً لارتدادات ذلك عليها، وعلى مستقبل البلد، ولم تدرس تبعات اختفاء الشعب من معادلات الصراع، ولم تحاول انتهاج استراتيجية مغايرة للرد على هذا التحدي. ويبقى، في إطار مراجعتنا للقصور السياسي للثورة، ملاحظة غلبة البعد العسكري على البعد السياسي فيها، وهو نقاش لا علاقة له بمشروعية العمل المسلح، أو جدواه، من عدم ذلك، بمقدار ما يتعلق بمناقشة هذه الظاهرة في حيّز التجربة والممارسة السوريتين. ومشكلة المعارضة المسلحة أنها رفعت وتائر الصراع، ليس بناء على تطور الحالة الكفاحية في مجتمعها، وأنها خاضته، أيضاً، ليس بناء على امكانياتها أو امكانيات شعبها، بقدر ما فعل هذا وذاك بناء على سياسات الآخرين، ووعود الدعم منهم، ويأتي في ذلك تبنّي خطة أخذ مناطق كاملة والسيطرة عليها، وهي فكرة لا يعرف أحد كيف تم تقريرها، أو كيف تم فرضها، لا سيما انها في الممارسة، وبعد عام ونصف العام، لم تكسر النظام أو تضعفه، مع أنها أوجعته. وبالعكس إذ تبيّن أن هذه المنهجية في العمل العسكري سهّلت على النظام استنزاف طاقة الثورة، وبرّرت له توجيه ضربات وحشية للمناطق الحاضنة لبيئاتها الشعبية، والتي نجم عنها، كما ذكرنا، تشريد ملايين السوريين. ثمة نتائج اخرى لغلبة البعد العسكري، منها زيادة ارتهان الثورة للداعمين الخارجيين، على تباين سياساتهم وتوظيفاتهم، وتهميش البعد الشعبي للثورة، وطمس السياسة من مشهد الصراع الجاري. وفي المحصلة فقد تبينت هشاشة العمل العسكري، وعدم استناده الى مرتكزات صلبة، في جوانب عدة منها جمود الصراع بين النظام والثورة، منذ تموز (يوليو) 2012، وتالياً، عدم قدرة الفصائل العسكرية على فك الحصار عن المناطق التي تسيطر عليها، كما في داريا والمعضمية والغوطة واليرموك في دمشق. لكن الأخطر من هذين الامرين تمثّل بقيام تنظيم «داعش»، الذي لم يظهر إلا منذ اشهر عدة، بقضم كثير من المناطق «المحررة»، من الرقة إلى حلب، على حساب الجماعات العسكرية الأخرى. على ذلك، فإن الثورة التي تشتغل في الوضع السوري المعقد، والخريطة المفتوحة على كل التدخلات، معنيّة بمراجعة طريقها، إذ ثبت أن مختلف الرهانات ليست في محلها، لا طلب نوع من التدخّل الخارجي، ولا التعويل على الصراع المسلح وحده. لذا، فإن هذه الثورة، كي تستمر وتنتصر، معنية بمراجعة طريقها وأشكال عملها وترشيد خطاباتها، بحيث تستعيد روحها كثورة من أجل الحرية والكرامة والمساواة والديموقراطية، وبحيث تتمكن من قلب الواقع الذي فرضه النظام. هكذا، لا معنى للتخبّط في التعاطي مع مؤتمر «جنيف 2»، فهذا بمثابة تحصيل حاصل ونتيجة للقصور السياسي، والخروج عن مقاصد الثورة، والارتهان الى البعد العسكري، على رغم هشاشته ومشكلاته وارتهاناته. طبعاً لا معنى لهذا النقاش لو أن سقوط النظام قاب قوسين أو أدنى، لكن طالما ان التعويل على ذلك بالقوة الذاتية وحدها غير ممكن، فهذا يتطلب اقله ملاقاة الجهد الدولي في منتصف الطريق، باعتبار ذلك جزءاً من الصراع السياسي، لا سيما أن المشاركة تتأسس على تشكيل هيئة انتقالية، للحكم في سورية. القصد أن الذهاب إلى جنيف لن يضر بالمعارضة، التي ليس لديها ما تخسره، بقدر ما انه سيضرّ بالنظام الذي بات يدرك ان قصة «سورية الأسد الى الأبد»، انتهت إلى الأبد. طبعاً لن تنتج حلول سحرية من جنيف، لكن الذهاب جزء من الصراع السياسي، وهو قد يؤسّس لشرعية جديدة في سورية. وهذا الذهاب قد يكون بمثابة فرصة لقلب الواقع الحالي، لجهة كسب المجتمع الدولي الى جانب مطالب مثل وقف القصف والقتل ورفع الحصار، وفتح ممرات انسانية، والإفراج عن المعتقلين وعودة السوريين الى بيوتهم آمنين. لذا، فإن أقل ما يمكن قوله للمعارضة السورية: اذهبوا الى جنيف ودعوا النظام يرفض. اذهبوا وضعوا شروطكم على الطاولة. اذهبوا الى جنيف واستمروا في ثورتكم. * كاتب فلسطيني