خلال عملي التربويّ الذي امتدّ سحابة ربع قرن، بقيت على تماس دائم مع مشكلة لم يخيّل إليّ أنّها ستجد حلولاً في الأمد المنظور، هي مشكلة إيجاد روايات باللغة العربيّة تصلح للفتيان والفتيات. فالكتب الموجودة في المكتبات تتوجّه إلى فئتين عمريّتين واضحتي المعالم: الأطفال والكبار. بينما تندر الكتب الخاصّة بالمرحلة الوسطيّة التي تكثر فيها الأسئلة وتتكوّن الشخصيّة، إذ يصل فيها المراهقون، المرهقون من الشغف والتحدّي، إلى مرحلة الأحلام بعدما كانوا، أطفالاً، في مرحلة التخيّل. ليس الأمر سهلاً، خصوصاً متى صار على الكتاب أن ينافس التلفزيون والسينما وشبكة الإنترنت، وأن يتميّز لغة وخيالاً من دون أن يسخر من عقول المتلقّين، وأن يوجّههم إلى القيم من دون أن يقع تحت ثقل الوعظ والإرشاد، وأن يحمل إليهم المتعة وينمّي الذائقة الأدبيّة من دون أن يتحوّل كتاباً مدرسيّاً مفروضاً في الامتحانات، فضلاً عن أن الكاتب مجبرٌ على فهم نفسيّات من يتوجّه إليهم وعقولهم ومشاعرهم ومعلوماتهم، ومطالَب كذلك باحترام خصوصيّة المجتمع الذي إليه ينتمون، على أن يكون صادقاً في ما يكتبه، الصدق الإبداعيّ الأدبيّ الذي لا يغيب عن القارئ ولو مراهقاً. لا شكّ في أن الشاعر والناقد عبده وازن كان على بيّنة من كلّ ذلك حين خطر له أن يقتحم غمار هذا العالم الثريّ والثائر في الوقت نفسه، فكانت النتيجة روايته «الفتى الذي أبصر لون الهواء» عن الدار العربيّة للعلوم - ناشرون 2011، التي تروي قصّة فتى ضرير يواجه صعوبات الحياة وينتصر عليها بالإرادة والحبّ والعلم والعمل. الموضوع في ذاته قد يجرف كاتبه، أيّ كاتب، نحو المبالغة في الدفق العاطفيّ تضامناً مع الفتى الضرير، أو في اتجاه الغلوّ في التوجيه والإرشاد بغية نصح الفتيان والفتيات بتحمّل مصاعب الحياة، بل مقاومتها وتخطّيها. لكنّ عبده وازن استطاع التخلّص من كلا المأزقين مع المحافظة على الخطّ القصصيّ والأسلوب الشعريّ، وهو حين رافق الفتى الكفيف «باسم» من قريته الجنوبيّة إلى معهد الضرير في ضاحية بيروت، لم يتحوّل عصا بيضاء ترشد الفتى المتلمّس طريقه في عتمة النظر وغربة المكان، بل بقي شاهداً على معجزة الإرادة ودفء الحبّ ينقذان العقل من الجهل والقلب من التحجّر، ولو كانت العينان عاجزتين عن الرؤية. لم يخفّف الكاتب من وطأة الإعاقة البصريّة، فالأمر صعب على الفتى ووالديه وإخوته، وهو أكثر قسوة على الأمّ خصوصاً حين يتبيّن أنّ الأمر وراثيّ وأنّ جدّها كان ضريراً. فالأهل عموماً يشعرون بالذنب تجاه أيّ توعّك يصاب به ولد من أولادهما مهما كان عمره، فكيف إن كان الأمر إعاقة لا شفاء منها، نقلها الأهل أنفسهم الى أولادهم؟ ولكنّ الكاتب لم يترك الأم غارقة في مأزقها النفسيّ، بل جعلها تنتصر على الواقع الجديد مسلّحة بإيمانها بالله ودعم زوجها ومساعدة أفراد العائلة، ثمّ ترضى، ولو على مضض، برحيل ابنها إلى معهد الضرير كي يبني شخصيّته ويكوّن نفسه مستقلاًّ عنها. أمر آخر يستحقّ التحليل في علاقة الأخوة بأخيهم البكر الكفيف. فلو كانت الرواية لغير هذه الفئة العمريّة، لقلنا إنّ اهتمام الأهل بالابن الفاقد نظره قد يثير غيرة إخوته وأخواته، وهو أمر معروف في علمَي النفس والاجتماع، بسبب عجز الإخوة في مراحل مبكرة من حياتهم عن فهم حاجة الأخ العاجز إلى من يهتمّ به. ولم يغب هذا الأمر طبعاً عن بال الكاتب الذي تقصّد نسج شبكة علاقات متينة بين أفراد العائلة بدءاً من والدَي الفتى وعمّه وامرأة عمّه، وصولاً إلى الأولاد، ما جعل من المنطقيّ ألاّ يغار الإخوة من أخيهم، وأن يحبّ الفتى «باسم» ابنة عمّه «زينب» التي كانت تقرأ له وتهتمّ به. وأبقى «عبده وازن» هذا الحبّ في إطاره البريء بعيداً من الأحاسيس والرغبات الجنسيّة مع أنّ كلّ المواصفات التي أعطاها للفتى توحي بأنّه شغوف بالحياة نهمٌ إلى العبّ منها، يحبّ الأدب والقصص والطبيعة، ويُعمل حواسّه التي ضاعف عماه من قوّتها في التقاط كلّ ما يدور حوله. وأفترضُ أنّ ذلك مقصود لكون سياق الرواية يقود المراهق إلى المعهد، بعيداً من حبيبته، حيث سيصبّ اهتمامه على القراءة وفق نظام «برايل»، أو عبر تسجيلات صوتيّة. ولكن تبقى نهاية الرواية مفتوحة على احتمال علاقة متكاملة تهبها الحياة لهذا الشابّ الذي بدأت تتبلور شخصيّته. في المعهد، نجح الكاتب في تصوير الفتى مستكشفاً وجود الأشخاص وحدود الأمكنة في المعهد، متلمّساً مصغيّاً مستنشقاً، باحثاً عن الخطّ الذي يرتاح إلى سلوكه في الحياة إن عبر متابعة تحصيله العلميّ ولو بدأ متأخّرًا عن رفاقه أم عبر حرفة يدويّة تجمع بين الفنّ والفائدة العمليّة، وكلاهما يحتاج إليه المجتمع وبه تكتمل حياة الناس. ووفّق الكاتب كذلك في جعل المكان مصهراً لمختلف الطوائف التي يتعرّف أصحابها على مذاهب بعضهم بلا أفكار مسبقة أو أحكام رافضة، وهكذا صار «جورج» المسيحيّ وزميله المسلم «باسم» صديقين يتبادلان المعلومات عن ديانتيهما بعفويّة وتلقائيّة. فهل المصيبة تجمع كما يقول المثل الشعبيّ؟ أم هو فقدان البصر يفتح البصيرة لترى أنّ ما يجمع الناس على اختلاف طوائفهم أكثر بكثير ممّا يفرّقهم؟ بقي أمران لا تكتمل هذه القراءة من دونهما: العنوان ولوحة الغلاف. كان «باسم» يسأل ابنة عمّه عن لون الهواء، علماً أنّه لا يعرف شيئاً عن الألوان لكونه ولد ضريراً، وكانت تجيبه أنّ الهواء لا لون له، فوجد الأمر غريباً إذ كان كلّ من حوله يساعده على «رؤية» الأشياء والأشخاص من خلال الأشكال والألوان. وكان تقريب مفهوم الشكل سهلاً إلى حدّ كبير من خلال قيادة يده في رسم دائرة أو تحسّس شكل الهلال وسوى ذلك، أمّا الوجوه والكلمات فتحسّسها بيديه وأصابعه ولو أنّ «الأصابع ليست هي العيون التي ترى، حتّى وإن كانت رشيقة الحركة» (ص 68). بقي أمر الألوان، ولقد لاحظ «باسم» أنّ لكل شيء لوناً يراه الناس إلّا الهواء، فقرّر أن يرى هذا اللون الذي لا يراه أحد. وكان له ما أراد، على حداثة سنّه وعلى رغم معاناته، حين تعلّم وأحبّ وتفوّق في مباراة أدبيّة وقدّم يد المساعدة لكلّ من حوله، فزال السواد عن قلبه وعينيه وحلّ بياض رحب ونقيّ (ص 119). أمّا الغلاف فيصوّر أنامل تلامس أحرفاً نافرة لقراءتها وفق نظام «برايل»، فهل يمكننا أن نقترح على دار النشر والمعنيّين ترجمة هذه الرواية إلى تلك اللغة، وكذلك تسجيلها بصوت فنّان عربيّ يجيد الإلقاء فيجعلها متعة لسمع المبصرين والمكفوفين؟ رواية الفتيان هذه وفق التعريف عنها على الغلاف تقدّم مادة غنيّة وجميلة تصلح للنقاش في المدارس ونحن على عتبة عام دراسيّ جديد، شرط ألّا يحوّلها المعلّمون منبراً توجيهيّاً صارماً، ويتركوا لأتراب «باسم» حريّة محاورته وفهمه والتعبير عن أفكارهم عنه ومشاعرهم تجاهه على سجيّتهم وبالطريقة الفنيّة التي يرتاحون إليها (موسيقى، مسرح، فيديوكليب، تعبير كتابيّ، رسم...). وهكذا يتعلّمون عن طريق التحليل والاستنتاج المعنى الحقيقيّ لدمج ذوي الحالات الخاصّة في المجتمع، ويقدّرون بالتالي الحياة والصحّة وما وُهبوا من قدرات ومواهب. على كلّ حال، أليس التفكير والإبداع هما ما نريد تحقيقهما مع الفتيات والفتيان من خلال المطالعة؟