ترتدي مقولة التنمية البشرية والاقتصادية المستدامة أهمية استثنائية على المستوى الكوني في المرحلة الراهنة. وإلى جانب الديموقراطية وحقوق الإنسان تتكرر مقولة التنمية المستدامة في دراسات لا حصر لها، وبلغات عالمية مختلفة. فما هي التنمية المستدامة؟ وكيف تكون متوازنة؟ وهل هناك منظور علمي موحد للتنمية أم يتعدد استخدامها بتعدد الدول والتيارات الفكرية والقوى السياسة المهتمة بتحقيق التنمية؟ في هذا المجال صدر في كانون الثاني (يناير) من عام 2011 عن مؤسسة الفكر العربي في بيروت، الكتاب الأول عن الصين ضمن سلسلة «معارف» لنشر الكتب العلمية. وهو من تأليف الباحث الصيني تيان ينغ كوي، وحمل عنوان: «طريق الصين: النظرة العلمية إلى التنمية». على رغم صغر حجمه، تضمن الكتاب موضوعات لا حصر لها تناولت النظرة العلمية إلى التنمية، وكيفية تحقيق التنمية المستدامة، وإقامة التنمية المتوازنة بين المناطق المدينية والريفية، والبناء السياسي والإداري في ظل المفهوم الصيني الجديد للتنمية. شهدت الصين في مرحلة الإصلاح والانفتاح التي بدأت في عام 1978، تبدلات جذرية في بنية المجتمع الصيني الذي يضم 56 قومية ويبلغ تعدادهم أكثر من مليار وثلاثمئة وأربعين مليون نسمة، وينتشرون على مساحة تزيد على تسعة ملايين وستمئة ألف كيلومتر مربع. لذا، تطرح مسألة التنمية في الصين تساؤلات لا حصر لها نظراً إلى البنى البالغة التعقيد فيها، من حيث الطبيعة الجغرافية، واتساع الحدود، وتنوع المناطق، وكثرة القوميات، وحدة المشكلات داخل المجتمع الصيني بسبب التفاوت الكبير في المداخيل بين الأفراد، وبين سكان المدن والأرياف وسكان الصحارى. فالإجابة على السؤال العلمي حول المنظور الصيني للتنمية يتطلب تحديد السمات الأساسية للتنمية المعتمدة في المجتمع الصيني المعاصر، إضافة إلى تحليل أنواع التعددية والحلول المقترحة للتفاوت الاقتصادي والاجتماعي والسكاني والجغرافي. وعند تحليل المقولات النظرية التي اعتمدتها الصين للتنمية العلمية إبان مرحلة الإصلاح والانفتاح، يبرز سؤال منهجي كبير: هل ما زالت تلك المقولات صالحة حتى الآن؟ وما هي فرص تطبيق التنمية البشرية والاقتصادية المستدامة في الصين وفق نظرية الاشتراكية بخصائص صينية؟ وهل تتضمن مبادئ واضحة لشرح أسس النظرية العلمية للتنمية المستدامة في الصين؟ وكيف تواجه مشكلات تراجع النمو بعد هذا الارتفاع الكبير طوال العقود الثلاثة الماضية؟ وما هي النتائج السلبية التي رافقت ذلك النمو السريع؟ وكيف يمكن الحفاظ على نسبة مرتفعة سنوياً من النمو الاقتصادي في السنوات المقبلة؟ على جانب آخر، تواجه الصين اليوم مشكلة شح في الموارد الطبيعية على المستوى الداخلي، وشح أكبر على المستوى الكوني بعد أن بدأت تنضب تلك الموارد. وبدأت غالبية دول العالم تبحث عن مصادر للطاقة المتجددة وعن ركائز تقنية للتصنيع الذي يساعد على حماية البيئة، لا أن يدمرها من أجل حفنة من الدولارات. وتطبّق الصين اليوم استراتيجية جديدة للتعليم العصري، وتطوير أنظمة الرعاية الصحية، وإيجاد فرص عمل للأجيال الشابة، بخاصة المتعلمين منهم. وهناك صعوبات كبيرة في تطبيق نظام اجتماعي عادل لتوزيع الدخل القومي بين المناطق والفئات السكانية. ولا بد من إدخال إصلاحات جذرية على ركائز النظام الصحي والاجتماعي والثقافي والتربوي والإداري القائم ليصبح أكثر عدالة، ويحقق التنمية المتوازنة والمستدامة في جميع المناطق. وما زالت الزراعة تحتل موقعاً متقدماً في الاقتصاد الصيني. وهي تعيل مئات الملايين من الصينيين في مختلف المناطق. لذا، تولي الحكومات الصينية أهمية خاصة للتنمية الزراعية وبناء ريف صيني عصري يستخدم التقنيات الزراعية على نطاق واسع. وينشط القائمون على التنمية الزراعية لمحاربة كل أشكال الفقر، والأمية، والبطالة، والمرض، وتحقيق التمدين بخصائص صينية. ما يستوجب الإسراع في إصلاح النظام الإداري، وتبني سياسات ديموقراطية، وإقامة نظام سياسي بخصائص صينية تستند إلى مبادئ المركزية السياسية، وتحقيق السوق الاشتراكية بخصائص صينية، وغيرها. تعتبر الصين نفسها أكبر دولة نامية في العالم من حيث عدد السكان. وهي تكثف جهودها لمعالجة مشكلات نمو السكان فيها، والتي تتمثل في استمرار زيادة العدد الإجمالي للصينيين من جهة، واستمرار عملية التمييز بين الذكور والإناث من جهة أخرى. وتأتي زيادة السكان في مقدم المسائل التي تواجه السلطات الصينية. إذ من المتوقع أن يرتفع عدد سكان الصين بنسبة تزيد على أكثر من خمسين مليون نسمة في السنوات الخمس المقبلة. وتتمسك الصين بجدلية العلاقة بين نمو السكان والتنمية الاقتصادية والبشرية المستدامة لرسم سياسة تنظيم الأسرة التي ترتدي أهمية خاصة لدى السلطات الصينية. قدم الكتاب لوحة رغائبية أشبه بتقرير سياسي عن مجتمع صيني خال من المشكلات الحادة. لكن الوثائق الرسمية الصادرة عن المؤسسات الصينية الرسمية نفسها تبرز مشكلات التنمية في الصين على حقيقيتها، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: 1- تزايد عدد السكان المتنقلين داخل الصين بنسبة كبيرة. فارتفعت نسبة التمدين واستقرار أعداد متزايدة من الريفيين سنوياً في المدن، بخاصة الكبيرة منها. وتبلغ نسبة من هم الآن في سن العمل من الجيل الشاب المولود في مطلع ثمانينات القرن العشرين، حوالى 43 في المئة. ومن المتوقع أن يستقر أكثر من ثلاثمئة مليون فلاح في المدن خلال السنوات الثلاثين المقبلة، ما يستوجب رسم سياسة جديدة لمعالجة تلك التبدلات السكانية وتقديم الخدمات الاجتماعية لملايين إضافية من الصينيين، بخاصة الوافدين حديثاً إلى سوق العمل. 2- كانت الزيادة السكانية في الثلاثين سنة الماضية مراقبة بطريقة عقلانية مدروسة سمحت بنمو محدود في عدد السكان. وبعد تحديد الإنجاب والاكتفاء بولد واحد باستثناء بعض القوميات الصينية الصغيرة العدد، استقرت الزيادة السكانية بصورة عقلانية. لكن قرابة مئتين وعشرين مليون نسمة يتنقلون من مختلف مناطق الصين إلى المدن. لكن سرعة تمدين عدد كبير من الريفيين أدت إلى تراجع ملحوظ في الوظائف التقليدية كالإنتاج العائلي، والزواج المدبر، وجمود نسبة الإنجاب، وبروز تغيير نوعي في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. 3- تعاني الصين، كغيرها من الدولة المتطورة، من مشكلة المسنين التي تتزايد بنسبة تقارب الثمانية ملايين سنوياً خلال السنوات الخمس المقبلة. ومن المتوقع أن تصبح مواجهة الشيخوخة إحدى أبرز تحديات التنمية في الصين. إذ تبلغ نسبة المسنين ما فوق الخامسة والستين قرابة 12 في المئة من عدد السكان، وقد ترتفع إلى 25 في المئة في منتصف القرن الحالي. وهي أشد خطورة في المناطق الريفية منها فى المناطق الحضرية حيث يتمتع المسنون بالضمان الصحي، والرعاية الاجتماعية، والحماية العائلية. 4- تجد الصين صعوبة كبيرة في السيطرة على تفاوت نسبة المواليد بين الذكور والإناث. فعدد الذكور ما دون سن التاسعة يزيد اليوم على عدد الإناث بأكثر من اثني عشر مليون ذكر. وفي حال استمر هذا التفاوت، يشير بعض التقارير الرسمية الصينية إلى بقاء ما بين ثلاثين إلى أربعين مليون شاب من دون زواج في حلول عام 2020، ما يشكل تهديداً خطيراً للنمو السليم لسكان الصين، ويقود إلى مزيد من المشكلات الاجتماعية كاختطاف النساء والدعارة. هذا إضافة إلى مشكلات سكانية أخرى كتراجع معدلات الخصوبة، وتراجع نوعية الحياة الجيدة لدى نسبة مرتفعة من الصينيين، بخاصة في الأرياف والمناطق الصحراوية، وتزايد معدلات البطالة لدى الشباب المثقف، وتأخر سن الزواج لدى الشباب والشابات، والضغوط المتزايدة على فرص العمل، وصعوبة تقديم الرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية المتساوية في المدن والمناطق الريفية. 5- إن الهدف الاستراتيجي للتنمية المستدامة في الصين يتمحور حول كيفية تحويلها من دولة كبيرة في عدد السكان إلى دولة كبيرة في نسبة الموارد البشرية تنمية مستدامة ومتوازنة بين نمو السكان والاقتصاد، وتطور المجتمع وتنمية الموارد وحماية البيئة. وقد نجحت سياسة السيطرة على نمو السكان نسبياً فبرز استقرار ملحوظ في عدد الولادات، وتحسين البيئة النظيفة. وتتعاون الصين مع الأسرة الدولية في مجال ضبط النمو السكاني. وعلى رغم مواصلة سياسة السيطرة على نمو السكان، فإن نوعية حياة الصينيين لم تتحسن كما كان متوقعاً. وهي تتخذ إجراءات عدة تساعد على حل القضايا السكانية، وتطوير وتنمية القدرات البشرية. وتشجع على رفع القدرة التنموية للعائلة ضمن برامج عامة حددتها الخطط الخمسية الأخيرة لتطوير أنماط السكن ونوعية العيش لدى مختلف القوميات والمناطق الصينية. ختاما، تتميز النظرة العلمية للتنمية من منظور صيني بأنها تعالج أعداداً هائلة من السكان الذين يعانون من مشكلات اقتصادية واجتماعية مزمنة ومتنوعة. ونجح الخبراء الصينيون في تقديم مقولات علمية ساهمت في إيجاد حلول عقلانية مقبولة لمشكلة زيادة السكان، والنمو السكاني، ومستوى نوعية الحياة وجودتها، والسعي لمعالجة التمايز الواضح في نمط الحياة لدى الصينيين في المدن والأرياف، ومعالجة التفاوت في المداخيل، والتضخم، مع الاهتمام الدائم بالمسنين، وبناء هيكلية جديدة للنظام الأسري، ومعالجة قضايا المرأة، وإيجاد فرص عمل للشباب، ومواجهة السلبيات الكبيرة الناجمة عن النمو السريع والمرتفع بعد أن تحقق على حساب البيئة والموارد الطبيعية في غالبية الأحيان.