لم يكن من قبيل الصدفة أن يتحدث كلود ليفي - ستروس، أحد أكبر علماء الإناسة الأحياء خلال النصف الثاني من القرن العشرين، عن زميلته الأميركية مرغريت ميد، حين توفيت يوم 15 تشرين الثاني (نوفمبر) 1978، قائلاً: «لقد كانت مرغريت ميد عالمة إناسة كبيرة جداً، كما كانت ذات شخصية استثنائية... كانت على قناعة بأن علم الإناسة يحمل رسالة للبشرية جمعاء، وان في إمكان هذا العلم أن يساعد على حل الكثير من أكبر المشكلات التي تواجهها الحضارة المعاصرة». وفي الوقت نفسه لم يكن من قبيل الصدفة أن تقول الباحثة جانين باروتي في معرض تقويمها لحياة مرغريت ميد انها «بزيجاتها الأربع، ونضالها الدائم، ولهيبها العلمي، عرفت كيف تجعل لنفسها صورة اسطورية». مرغريت ميد كانت، بكل المعاني، سيدة علم الإناسة الكبيرة، في قرننا العشرين هذا، لكنها كانت - كما سيصبح كلود ليفي - ستروس في ما بعد - واحدة من علماء أناسة قلائل أدركوا ان هذا العلم ينبغي ألاّ يظل مقصوراً على دراسة المجتمعات البدائية، بل يجب أن يشمل أيضاً المجتمعات التي تسمى حديثة، والتي لو تحريناها جيداً لأدركنا أنها أكثر بدائية من أكثر المجتمعات غرقاً في البدائية. قد تكون مرغريت ميد تأخرت في الوصول الى هذا الاستنتاج، بحيث لم تسر على هديه إلاّ خلال السنوات الأخيرة من حياتها، لكنها حين وصلت اليه عرفت كيف تغوص فيه باندفاعة استثنائية وبانطلاق لا تحده حدود، فكانت بهذا، خلال السنوات الأخيرة من حياتها - على الأقل - مناضلة معاصرة ذات صوت وسطوة. خلال رحلاتها الكثيرة، وخلال سنوات التدريس الطويلة، كما خلال ادارتها لمتحف التاريخ الطبيعي، وفي كتبها المثيرة، اهتمت مرغريت ميد بدراسة المجتمعات البكر، وركزت اهتمامها في شكل خاص على دراسة العوائد والأعراف والعلاقات في تلك المجتمعات، وهي لئن كانت قد وضعت عشرات الكتب والدراسات، فإن كتابيها الشهيرين عن «العادات والحياة الجنسية في أوقيانيا»، وعن «التربية في غينيا الجديدة» يظلان أهم ما وضعته خلال المرحلة الأولى من نشاطها الكتابي. أما خلال المرحلة الثانية التي بدأت مع عقد الأربعينات، فإنها توجهت لإلقاء نظرات انتروبولوجية شديدة الدلالة والذكاء على المجتمعات المعاصرة، كما هي حال نظرتها الى المجتمع الأميركي الراهن في كتابها الشهير «إبقِ على بارودك ناشفاً» (1942) وكما هي الحال في كتب تالية لها مثل «الجنس والجنس الآخر». في هذا الكتاب الذي أصدرته ميد عام 1948، أي عند نقطة الذروة من نشاطها الفكري والكتابي، من الواضح أن هذه العالمة، التي أطلت على قضية النسوية والتفرقة بين الجنسين في الوقت نفسه الذي كانت قطاعات واسعة من المثقفين الأوروبيين والأميركيين تطل عليها، حاولت ميد أن تصل الى استنتاج علمي فحواه ان المرأة لا تولد امرأة والرجل لا يولد رجلاً إلا من الناحية البيولوجية الصرفة. أما المجتمع فهو الذي يجعل كل واحد من الجنسين ما هو عليه، ذهنياً وعقلياً. وكلام ميد في هذا الإطار ليس نظرياً أو ايديولوجياً، بل هو كلام قائم استناداً الى عمل المؤلفة كعالمة إناسة، وبالتالي استناداً الى تفكير معمّق في المواقع الاجتماعية التي تسندها الخبرة البشرية الاجتماعية الى كل جنس من الجنسين. وهي، بحسب ميد، مواقع تختلف وتتنوع باختلاف وتنوع المجتمعات نفسها. غير أن ميد تستدرك هنا لتقول ان البديهي وضع هذه الفوارق الثقافية مع علاقة مباشرة مع المعطيات الطبيعية المرتبطة بوعي الجسد. «ان كل مجتمع، تكتب ميد، وعبر التربية التي يوفرها للأطفال، ثم للبالغين، هو الذي يجعلهم يعون الفوارق الجنسية، خصوصاً ان كل واحد من الجنسين وتبعاً للاستعدادات التي يُعد لها، تزهر في داخله قوى ومعطيات محددة، متخلياً عن أخرى، ما يدفعنا بدءاً من هنا الى الحديث عن تصنيع المجتمع لنا. وبالتالي يكسب القضية برمتها تاريخانية مضادة للأساس البيولوجي الصرف. تُعنون ميد القسم الأول من كتابها «أشياء الجسد» وفيه تشدد على الدور المركزي الذي يلعبه وعي الجسد لا الجسد نفسه في الفوارق الجنسية وفي توازن المجتمعات. أما القسم الثاني فتعنونه «مشكلات المجتمع» وفيه تدرس كيفية تنظيم المجتمعات للفوارق بين الجنسين موضحة لنا ان المرأة هي التي تبدو أكثر تأقلماً مع العمل الرتيب والمتواصل وأكثر قدرة عليه، بينما يبدو الرجل قادراً على ممارسة جهود أكثر كثافة، انما متقطعة، أي ذات «نفس قصير». في المقابل تقول لنا ميد ان الإيقاع البيولوجي للمرأة ينطبع بلحظات قطيعة أكثر وضوحاً: الحيض الأول، الحمل الأول، سن اليأس... الخ. وتلاحظ ميد كيف أن ثمة مجتمعات تحاكي ايقاع حياتها على ايقاع البيولوجيا النسوية، فيما ترصد كيف أن ثمة مجتمعات أخرى، كالمجتمع الأميركي تضبط ايقاعها على ايقاع تقدم تقني غير محدد، ما يجعلها تبدو وكأنها تحاكي البيولوجيا الذكورية، المتحررة من الحدود التي تضبط حركية المرأة. وترى ميد هنا انه فيما تكون العلاقة بين المرأة وأطفالها علاقة طبيعية وبيولوجية، تكون العلاقة الأبوية علاقة رمزية واجتماعية بالأحرى. وتؤكد الباحثة أن هذا ينطبق على المجتمعات كافة، حتى وان كان كل مجتمع يعبر عن هذا التعارض بصورة مختلفة. وتعود ميد هنا لتؤكد من جديد أن هذا الفارق في الوضعية انما ينبني منذ الطفولة تبعاً للتربية الاجتماعية لا تبعاً للعناصر البيولوجية. وتخصص الكاتبة قسماً أخيراً في كتابها لرصد تطور حياة الشبيبة الأميركية وفكرها انطلاقاً من هذه المعطيات. خلال سنواتها الأخيرة اهتمت ميد، على رغم مواصلتها الترحال والاهتمام بالمجتمعات البكر، بشتى مظاهر الحياة الحديثة فكتبت مع جيمس بالدوين كتاباً ضد التمييز العنصري، وكتبت عن التطور الثقافي/ الحضاري واستمراريته، وعن الناس وأماكن سكنهم وعن العمل وانتروبولوجيته. هذا كله جعل مرغريت ميد تعتبر، يوم رحيلها، واحدة من كبار علماء القرن العشرين الذين كان الإنسان، والإنسان دائماً، محور اهتمامهم الأول. ولدت مرغريت ميد أواسط شهر كانون الأول (ديسمبر) 1901 في فيلادلفيا وحصلت على شهادة الدكتوراه من جامعة كولومبيا، لتعيّن في العام 1926 محافظة ل «المتحف الأميركي للتاريخ الطبيعي»، وهو منصب ستحافظ عليه فترة، وسيمكنها من أن تغيب وتعود، وتقوم برحلات علمية الى شتى الأصقاع التي شاءت دراستها، إذ نراها خلال 1928 - 1929 تقوم برحلتها الأولى الى جزر الباسيفيك الغربية، وبعد ذلك، وحسب الترتيب الذي تضعه جانين بارو وجدناها تزور غينيا الجديدة بين 1931 - 1933، ثم جزيرة بالي في 1936 - 1938، ثم جزر الاميرال في الباسيفيك الغربي (1953) وبعد ذلك بالي مرة أخرى (1957 - 1958). [email protected]