قدّم الدبلوماسي المخضرم وينستون لورد إلى هنري كيسنجر التقرير المطلوب، فشرح عليه كيسنجر بعبارة مقتضبة تقول كلماتها: «أهذا أفضل ما يمكنك عمله؟»، ثم أعاده إلى لورد الذي بذل بدوره أفضل ما يكون في مراجعة المحتوى، فلمّا رجع به إلى كيسنجر، أعاد إليه الملف بالملاحظة نفسها للمرة التالية: أهذا أفضل ما لديك؟ فلم يتمالك لورد غضبه وهو الذي اجتهد أيّما اجتهاد لإخراج التقرير على النحو الملائم، فاحتدت نبرة صوته موجهاً قذائفه باتجاه كيسنجر: «سُحقاً، نعم هذا أفضل ما لدي»، عندها وبهدوء تناول كيسنجر التقرير وقال: «حسناً، هذه المرة يمكنني الاطلاع عليه»، ما يعني أنه لم يفعل في المرات السابقة، وكان يرمي إلى تشجيع الرجل ليصل إلى أعلى مستوى يقدر على تحقيقه، وبالتالي لا يضيع وقته سدى في قراءة ما يمكن تحسينه بعد! وهو ما ينسف بالكلية المثل القائل: «اطمح إلى النجاح لا إلى الكمال»، لأنك ساعتها لن تصبو إلى أعلى المعايير، ولكن إلى المعيار الذي تنجح معه في الوصول إلى هدفك، والذي قد ترجم معه نوعية الارتقاء، وعلى العموم، النجاح شيء نسبي، فهناك من يعتبر أن النجاح بتجاوز المعايير لا يستحق الذكر ولا الفخر، وهناك من يضرب بعرض الباب والشباك مقياس «أفضل ما يمكن»، وهذا النموذج من الناس موجود في كل مكان، ومتوفر بكثرة، لكن من الصعب أن يأتي بشيء متميز، فتذكرة التفرّد ثمنها غال جداً، يدفعها المرء من وقته وصحته وطاقته وراحته، فكيف هي تذاكرنا؟ للمصريين مفردة ترددها أفلامهم وهي «السِبنّسَة»، فإن سألت أحدهم ولا يملك مالاً كافياً لشراء تذكرة قطاره، فسيخبرك أن مقعده سيكون في السِبنّسَة، وبالمناسبة هي كلمة فصحى وتعني المركبة الأخيرة من القاطرة، وهكذا هي تذاكر أعمالنا: في السِبنّسَة!! فماذا إن انتقلنا بقدرة قادر إلى مقاعد المركبة الأولى؟ لن أستغرب إن سحبنا الحنين إلى مؤخرة القطار، حيث لا تقيّد ولا توقع! ولكن الأغرب إن طالبنا في السِبنّسَة بمستوى الخدمات المقدم لزبائن الدرجة الأولى؟ أو كما قالها القذافي في إحدى طلاته المسرحية: «يا سلام!». ولأن القارئ دائماً ما يسأل عن الحل، فالجواب لا يحتاج إلى عبقري زمانه ليكتشفه، الحل في الاتقان والتجديد، لا تلفِّق وتمضي، ولا تراكم وتهمل، حتى لا تنفجر النتائج في وجهك ذات يوم، ولا تتعود العادي وترضى بالباهت، وإن تطلب ذلك انقلابك على لوحة بلا ملامح علقوها على حائطك، فلا تنتظر أن يغيروا حياتك، أنت من ينبغي أن يبادر ويبدأ بأبسط تفاصيل حياته، من أسلوب قراءته لصحيفته وحتى خلوده إلى النوم، إلى ما بينهما، وهنا لابد من الإقرار بأنها مغامرة مراوغة للالتفاف حول المعتاد، ولكن حياة بلا تجديد، لا تحمل وعداً لغد مختلف، وكل تغيير وله تداعياته التفاؤلية والتشاؤمية في تراث الأمم، أو لندمجها ونقل «التشاؤلية» لما تحمله من توجس بين خير وشر، ومن الأرجح أن تغيير العادات ليس بالأمر اليسير علينا كعرب وكبشر عامة، ولكن لا شر أكبر من تهاوننا في معايير حياتنا وكيف نحياها! وها نحن أسقطنا النظام فهل تغيّر النظام؟ وما زال النظام مقيماً فينا ما أقمنا، فلا يغير الله ما بنا، إلاّ إذا غيّرنا ما بأنفسنا. يقول الإسلام للإنسان: «هناك إرادة عليا في الكون فوق رغباتك وآمالك، وعليك أن تدرك ذاك الخط الفاصل بين ما تستطيع تغييره وبين ما لا تملك تغييره»، فالاستسلام لإرادة الخالق هو غير الاستسلام لإرادتك، فلا تخلط وتقعد ملوماً مذموماً مخذولاً، فكل امرئ ويستطيع ما يستطيعه، ثم تأتي بعد الاستطاعة ما قصده كيسنجر مع مساعده: أهذا أفضل ما لديك؟ فإن لم يكن، فكيف بدفعة إضافية نحو الأفضل؟ ألا يليق بك الانجاز المتميّز؟ نعم خذها من هذه الزاوية: هذا ما يليق بي، هذا ما يحمل اسمي، وقس عليه، وليكن ضميرك مرتاحاً وأنت تغادر مقاعد السِبنّسَة، فمن فوضى المكان وازدحام الوجوه لن يُلاحظ غيابك أو يُفتقد كما قد تظن، فغادر ولا تأسف على علة تلد العلة، وعلى يوم يتلوه غد مثله. [email protected]