طرح عرض «ممرات مضيئة» الذي قدّمته فرقة «ديلفوس للرقص المعاصر» المكسيكية ضمن «مهرجان البستان»، أول من أمس، أسئلة وجودية عميقة، بدأت من خريطة الذات المضطربة وانعكاساتها وتفاعلاتها مع المحيط، لتجرّنا من خلال ست لوحات راقصة إلى التفكير في قضايا الهوية والرغبة واليقين. انتقلت الفرقة من لوحة إلى أخرى، على أنغام مقطوعات موسيقية بديعة مختارة بعناية، لمؤلفين عالميين مثل أنطونيو فيفالدي وميريديث مونك وماريو لافيستا وستيف ريتش وموريس رافيل. رسمت الأجساد المتحركة كالروبوتات، لا سيما في اللوحة الأولى على خلفية «نيزي دومينوس» لفيفالدي، خرائط وخيوطاً معقّدة لتُخبرنا ربما عن اليقين واللايقين. لكن التقنية العالية لهذه الأجساد المتمرسة على الرقص المعاصر، أفقدت اللوحات شيئاً من رونقها نظراً إلى افتقادها للروح أحياناً وللتناغم في أحيان أخرى، الأمر الذي بتر حلقة التواصل الدقيقة بين المشاهد والفرقة في بعض اللوحات، وشتّت تركيزه أحياناً، لدرجة جعلت إحدى المشاهدات تتأفّف عند انتهاء إحدى اللوحات قائلة: «كأنهم يؤدون تمارين رياضية». وربما كان مسرح «البستان»، الصغير حجماً والمتواضع في التقنيات، السبب في عدم ارتياح الراقصين. لكن هذه البرودة التي تبدّت في اللوحة الأولى، تحوّلت ناراً جاذبة مع ظهور الراقص أوغستين مارتيناز على الخشبة وحيداً، ليلفت الجمهور بحكايته المرهفة حول علاقته المضطربة بذاته. فروى بكل عضلة في جسمه قصة مختلفة من عذاباته الشخصية، وطرح بنظراته أسئلة تعبيرية «أجابته» عنها مقطوعة «وحيداً مع روحي» للمؤلفة الموسيقية والمصممة والمخرجة الأميركية ميريديث مونيك بطريقة شاعرية. واختيار هذه المقطوعة بالذات لمونيك، أعطت اللوحة الراقصة زخماً وبعداً درامياً، كون المؤلفة تعتمد في موسيقاها على التلاعب بتقنيات الصوت والمزج بين الموسيقى والحركة اللتين تبرع مونيك باستخراج الطاقة والمشاعر من خلالهما. وتعتبر مونيك الملقبة ب«ساحرة الصوت» من أهم المؤلفين الموسيقيين في الولاياتالمتحدة، كونها تعمل على اكتشاف الصوت وتوظيفه كأداة ولغة بحدّ ذاته. عندما أسس كل من فيكتور مانويل رويز وكلوديا لافيستا، فرقة «ديلفوس للرقص المعاصر» عام 1992، وضعا نصب عيونهما هدف الأعمال المعاصرة المختلفة عن الصورة النمطية التقليدية التي اعتادها الجمهور العالمي عن دول أميركا اللاتينية. وهدف هذه الفرقة لا يقتصر على إنتاج أعمال مبدعة تتواصل مع يوميات المجتمع المحلي والعالمي وقضاياهما، بل تعمل على تطوير مساحات الرقص المعاصر كجزء من التربية والحوار والتبادل الثقافي، لتكون وفق ما قالت لافيستا «سفيرة المكسيك في العالم». قد تكون الفرقة نجحت في اختيار المواضيع الفلسفية العميقة تلك، لكن يبدو أنها تطرّفت في تقديم صورة مدينية مختلفة عن السائد من خلال الأجساد، إلى درجة أنها ركّزت كثيراً على التقنيات ونسيت روح الممثل المفترض أن تكون حيّة على الخشبة لتساهم في إيصال الفكرة بطريقة سلسلة.