إن كان من شيء لن يثير الجدل والخلاف في الذكرى الأولى لحركة شباب 20 فبراير الاحتجاجية في المغرب، فهو أن جيل الحركة أسقط عن نفسه تهمة باطلة لازمته طويلاً، وألبستها دراسات عديدة لبوس الحقيقة العلمية. انها تهمة الجهل السياسي والخواء الفكري، وهو ما تمت تسميته بتعبير مخفف درج من الثمانينات إلى ما قبل 20 شباط (فبراير) 2011، هو «العزوف السياسي». في الحقيقة لم يكن عزوفاً قط. كان مجرد كبوة سياسية تنتظر اللحظة التاريخية الملائمة لتستيقظ وتنتقل إلى الفعل المؤدي إلى التغيير. مغرب 19 فبراير 2011 قطعاً ليس مغرب 20 فبراير وبعده. قبل سنة واحدة، مفصلية في تاريخ الحركات الاحتجاجية، جيَشت حركة 20 فبراير الشبابية الخارجة من شبكات التواصل الاجتماعي على الإنترنت، جزءاً عريضاً من الشعب للمطالبة بالعدالة الاجتماعية وإسقاط الاستبداد والفساد والمحاسبة وإقرار ملكية برلمانية وتوسيع هامش الحريات. وحصلت الحركة على مكاسب سياسية واجتماعية كانت معلقة إلى أجل غير مسمى في ظل وضع سياسي راكد ومأزوم، ومعها مكاسب نفسية كبيرة تمثلت في كسر الخوف واستعادة الثقة في سلطة الشعب. لم يسبق أن تعبأ تكتل شعبي وتوحد بتلك الكثافة والقوة والانتشار، منطوياً على أطياف مجتمعية شديدة التنوع والمشارب والمرجعيات والأعمار، سوى في مرحلة أسبق من تاريخ نشوء الحركة الوطنية لإسقاط الاستعمار الأوروبي. واشتهرت الحركة بسلمية تحركها ومطالبها في مسيرات احتجاج عارمة في الشارع ضمت أقصى اليمين وأقصى اليسار ومواطنين بلا انتماء سياسي في عشرات المدن والبلدات في توقيت واحد. وحافظت الحركة على إيقاع نزولها إلى الشارع وقوة مطالبها، وإن تراجع العدد في فترات متقدمة من السنة الماضية، لأسباب كثيرة. إنجاز ضخم وتاريخي لم تحصله يوماً الدولة ولا أحزاب ما بعد الاستقلال. لذلك، حدثت رجة قوية في أجهزة الطرفين اللذين تمسكا بأن المغرب يشكل استثناء أمام هبة الربيع العربي. بيد أن الدولة كانت أكثر ذكاء في التقاط إشارات الحركة الشبابية التي لم تطالب بإسقاط النظام كما في بلدان عربية أخرى، فتحركت سريعاً لصياغة رد فعل مواز للحركة من حيث القوة والاتجاه على ما يقول الفيزيائيون، فبادرت الملكية التي راكمت انفتاحاً ومنسوب حريات عامة أوسع من محيطها الإقليمي، إلى طرح تعديل الدستور في 9 آذار (مارس) في تعاقد جديد بينها وبين الشعب. وتنازلت الملكية عن صلاحيات واسعة في تدبير الشأن العام وفصل السلطات وتحديد المسؤوليات، في حين أن غالبية الأحزاب، لا سيما العريقة، ظلت بين رافضة ومشككة في نواياها ومحركاتها وقدرتها. وترتب على ذلك مشاركة شعبية واسعة في الاستفتاء حول تعديل الدستور في 1 تموز (يوليو)، ثم سجلت الانتخابات المبكرة في 25 تشرين الثاني (نوفمبر) أعلى نسبة مشاركة حملت بغالبية غير مسبوقة في تاريخ الانتخابات المغربية، حزباً إسلامياً إلى الحكم. ومع استجابة النظام الحاكم لجزء مهم من مطالب الشارع، وجدت الأحزاب نفسها مجبرة على المواكبة، بعد أن أفلتت المبادرة منها وتراجع أداؤها وانحسر امتدادها وتأثيرها قبل عقد على الأقل، إثر تسوية سياسية مع الملك الراحل حملت المعارضة اليسارية إلى قيادة مرحلة انتقال ديموقراطي لم يذهب بعيداً. وقررت الحركة من جهتها، مواصلة الاحتجاج والضغط، ورفعت مطالب مقاطعة الاستفتاء، ثم مقاطعة الانتخابات، وهذه المرة من دون أن تحقق مكاسب. لم يكن كل هذا ليتأتى بطبيعة الحال خارج سياق الحراك الإقليمي، ولم يكن منطقياً أيضاً أن يظل المغرب خارج اللحظة الثورية التاريخية التي شملت محيطه كما لو أنه يرفل في نعم الديموقراطية والعدالة الاجتماعية. لهذا لم تُخلِ المكاسب المتحققة الشوارع من شباب 20 فبراير، فسقف المطالب الذي أخرجها إلى الشارع أعلى وطموحها أكبر في ضمانات أمتن للتغيير خصوصاً إنها رأت الاستجابة السياسية ناقصة، بل وصفتها بتكتيك الاحتواء. وبعد عام من انطلاقها، تعرضت الحركة لرجات كثيرة هددت وجودها. أولها كان الانقسام حول مواصلة النضال بعد إعلان تعديل الدستور، مروراً بمواجهات مع الأمن واعتقالات هددت بوأد النضال السلمي ومسلسل التغيير، إلى انسحاب جماعة دينية محظورة متهمة بالتطرف (جماعة العدل والإحسان) شكلت القاعدة الشعبية والتنظيمية للمسيرات، فاندلاع مواجهات وتخريب وعنف بصيغة بقعة الزيت في مدن عدة، في الأشهر الثلاثة الأخيرة مباشرة بعد تنصيب الحكومة الجديدة، على خلفية مطالب اجتماعية للعاطلين من العمل وسكان الأحياء الشعبية. وخلدت حركة 20 فبراير ميلادها الأول في ظل معطيات واضحة تتمثل في انحسارها العددي ورجوح كفة المطالب الاجتماعية على كفة المطالب السياسية، وغموض حول مستقبل وجودها. وفي حين أن الحكومة الإسلامية الفتية تعتبر أن الحركة أدت وظيفتها وتدعوها إلى الحوار لإيجاد آليات وقوالب بديلة للنضال، فيما تميل المعارضة اليسارية التي عاقبتها الانتخابات الأخيرة إلى استمرار الحاجة إلى الاحتجاج السلمي لاختبار الإصلاحات الموعودة. وثمة نقاش وطني واسع فُتح على هذه الأرضية لم تتضح معالمه بعد، إلا أن حركة 20 فبراير والانتفاضات الشعبية العنيفة المسجلة أخيراً ببلدات ومدن عدة تلقي بظلال ثقيلة على مستقبلها ومستقبل الإصلاح الديموقراطي الذي بدأ مشجعاً، وانتهى في اللحظة الراهنة مقلقاً للدولة ومكونات المجتمع السياسية والمدنية كافة.