في المشهد السياسي الراهن في العراق تسيطر المكابرة على متونه وتمنع «النخب» من البوح العلني بأن القوى الاقليمية برعاية الولاياتالمتحدة هي التي تقرر مجرى الصراع والتسوية. ومن الملاحظ هنا أن الموقف الايراني، وهو الحاسم في الكوندومينيوم، بقي ملتبساً بالنسبة الى الكثير من القوى السياسية، ما عدا تصريحات قاسم سليماني المفضوحة التي وصفها نوري المالكي بالغبية، وإياد علاوي بالواقعية، والتي أنكرها سفير طهران في بغداد. لكن الموقف التركي، وهو ثانوي لحد الآن، بدأ يغير لهجته، وانغمس القادة الترك في إعادة أقوالهم القديمة حول العلاقات التركية – العراقية الخاصة تاريخياً، وصاحب ذلك تهديدات مباشرة باتجاه الوزير الأول مع بعض التلميحات الغامضة! وإذا كانت ايران قد ساندت سابقاً «فيدرالية الوسط والجنوب» والتي كان ينادي بها «المجلس الأعلى»، فإنها الآن تطرح أن «التشيع السياسي» بقيادة «التحالف الوطني» قادر على إنجاز الحكم في إطار «الأغلبية الطوائفية» ومحاولة تحجيم الأكراد قدر الامكان، مع التهميش التكتوني «للتسنن السياسي» وتفكيك تنظيماته اليومية. أما تركيا فهي تظهر جاهزة لدورها «الجديد» منذ التفاهم مع اميركا خلال تجربة انتخابات عام 2010 النيابية وتبنيها بالكامل مشروع «السبيكة السنية المطعمة بالعلمانية العلاوية» من خلال قائمة «العراقية» ومحاولتها الانفراد بتأييد أحد أقطابها، من الموصل، وهو أسامة النجيفي رئيس البرلمان الحالي، والاستمرار في تطوير هذه الصيغة من أجل ملء الفراغ بعد «الخروج الاميركي» ومواجهة النفوذ الايراني المتنامي. لكن عناد الوزير الأول وعجزه عن التفاهم «حتى» مع أقرانه في «التحالف الشيعي» قد فتح ثغرة في مسيرة التماسك والتمسك «الشيعي» بالسلطة. استثمرت تركيا هذا الخلل إلى حدود مناسبة ومقنعة لدى الكثير من المناهضين لسياسة المالكي، لا سيما في التربة «الشيعية» الغاضبة عليه وعلى تصرفاته المستبدة اليومية والنهج الإقصائي لبعض العناصر «الثقافية» المعروفة بعلاقاتها الجيدة مع «الحوزة»، بل إهماله المتعمد لآراء المرجعية باقتراحاتها الخاصة نحو ايجاد الحلول السريعة للأزمة المستفحلة في البلاد. لقد بادرت تركيا فوراً إلى دعوة عمار الحكيم إلى أنقرة لمناقشته حول جذور الأزمة ومضاعفاتها، وجزمت من خلال صحافتها اليومية بمسؤولية المالكي شخصياً في التراجع عن اتفاقية اربيل حول المشاركة في الحكم وحملته مخاطر تفرده السياسي ورفضه في التعاون الجاد مع بقية «المكونات» الأساسية في البلاد. وهنا يحق لنا ومن خلال المصادر الشيعية الخاصة، ومنها بعض «الفئات» المنسحبة من حزب «الدعوة» والمختلفة مع مواقف المالكي المتشنجة، أن نقرأ أوراق الشاي المهربة إلى أن تركيا استطاعت إستمالة الحكيم وأن تطرح امكانية إعادة «تحميل» التحالف الشيعي وكتابة علاقات داخلية مرنة، توفر الفرص السانحة لإطاحة المالكي والسعي الحثيث لأن يكون للحكيم دوره المركزي في صناعة «الوزير الأول» البديل. ومن الواضح أن «التفكيك» التركي لا يستهدف «التحالف الشيعي» بذاته، وإنما خلق أوضاع صالحة لدفع القيادات الشيعية الأخرى، ومن داخل «دولة القانون»، لسحب الثقة بالوزير الأول والتلويح بكونه المعوق الأساسي لاستمرار «التحالف الشيعي» في حكم البلاد بالشراكة مع «المكونات» الأخرى. ومن الجلي أيضاً أن الخطوة التركية ليست بعيدة من واقع «الحال» في صفوف قادة «التحالف الشيعي». فقد سجل عادل عبدالمهدي رأيه في جريدته اليومية «العدالة» بأن المعالجة الناجحة للأزمة لا يمكن تحقيقها الا بثلاثة «توجهات»: القبضة، الرعاية أو المشاركة. أما رئيس التحالف ابراهيم الجعفري فكان صريحاً في الكلام عن الخلاف الدائر في صفوف التحالف بين رأي «دولة القانون» حول حكومة «الأغلبية السياسية» وبين موقف «الائتلاف الشيعي» الذي يرغب باستمرار حكومة «الشراكة»، وحصراً تحت سقف الكوندومينيوم الاقليمي. والجعفري أيضاً يحبذ الوصول إلى «مقايضة» تركية – ايرانية حول العراق والمنطقة، وذلك بأن تقوم تركيا بالانفكاك عن ملف «الشرق الأوسط»! مقابل أن تتخلى ايران عن الوزير الأول! لكن الموقف التركي تراجع عن ضغوطاته واعتبرت «العراقية» أن موقفها من «المؤتمر» والأزمة لا يمكن تغييره إلا بالاعتماد على اتفاقية اربيل ومحاولة إحراج ايران ودفعها إلى الغرق كلياً في بحر الخلافات «الشيعية» البينية. * كاتب وسياسي عراقي