على ضوء الحراك السياسي – الديبلوماسي الأخير يمكن التمعن بخصوص احتمالات المرحلة العراقية القادمة ومن دون فقدان البوصلة التي تجعلنا نردد مع سانت اكزوبري اننا لا نرى في الحقيقة إلا بقلوبنا، فالأشياء الأكثر أهمية لا تُرى بالعين. وإذا بدا خاطئاً لدى الجميع أنّ تحالف «القائمة العراقية» هو التحالف المدعوم أميركياً، ظهر أيضاً عدم صحة التركيز على تحالف ثنائي بين العراقية ودولة القانون يشكل حكومة توصف بأنها غير طائفية، على رغم الاعتراف بأن التحالفين اللذين بدآ بمشروعين غير طائفيين، انتهيا الى ميول سُنّية وشيعية متناقضة. فالقاعدة شبه المستقرة الآن في الصراع السياسي، غير العقلاني والبعيد من هموم الناس ومصالحهم المهملة، هو أن هذه «المكونات» تتصرف على طريقة «لماذا يلجأ المخالف فوراً إلى المعنيين بشؤون الأمر؟ أليس الأفضل منح فرصة لهؤلاء ودفعهم للمجيء إلى الذين ارتكبوا تلك المخالفات المقدسة؟ هذا ما يحصل للبائعة المتجولين ورعاة كوندومينيوم «العملية السياسية» في العراق. لذلك، فإن «تقسيم» العمل في برامج التأهيل السياسي لهذه النخب من جانب ذوي الشأن تبدو ضرورية لاجتياز امتحانات الصراع السياسي القائم حالياً واحتمالات تطوره في الميادين الأخرى لاحقاً. وإذا كانت الادارة الاميركية غير مهتمة للعروض «الايرانية» في خضم المنازلات المحلية بين قوى الصراع – التقاسم الطوائفي العرقي، فهي بالتأكيد قد طرحت رؤيتها الخاصة عبر آليات التحكم من بعيد وعلى الآخرين ترجمة ذلك باللغة العراقية المحلية. وباختصار شديد شكلت هذه الرؤيا ثلاثة سيناريوات يمكن اعتمادها في بناء الحكومة العتيدة. وتمكن إضافة مفاهيم ملحقة تكون مساعدة في تزييت ماكنة صنع القرار وتعليم النخب أبجديات الادارة العامة من دون صعوبات مسبقة الصنع. الأول: تحالف بين «العراقية» و «دولة القانون» من خلال تشكيل غالبية برلمانية ودفع البقية «جميعاً»، بمن فيهم الكرد، إلى المعارضة في البرلمان. وهذا السيناريو محبذ من أعضاء الكونغرس الذين بعثوا برسالة مباشرة، بقيادة بيل ديلاهونت، إلى الوزير المنتهية ولايته. وقد انتقد رئيس البلد، المنتهية ولايته أيضاً، هذه الرسالة بحدة على رغم أنها أشادت بالمرجعية في النجف وموقفها «فوق السياسي»! الثاني: تشكيل حكومة «كتلة الراغبين» للغالبية ويصبح الآخرون معارضة تقليدية فاشلة. وقد عارض هذا الاقتراح التحالف الكردي والمجلس الأعلى بقيادة عمار الحكيم حيث أكدا تشكيل حكومة شراكة ل «الوحدة الوطنية». الثالث: هو جوهر سياسة الانعطاف الاميركي نحو مفهوم «الشراكة الاستراتيجية» مع العراق، وهو تجنب بالكامل، تشكيل حكومة «محاصصة» طوائفية – عرقية حيث تسيطر هذه القوى على الأجهزة الأمنية وتتبع معظم قياداتها الأحزاب المرتبطة مع ايران وتشمل قوات بدر وكتائب حزب الله العراقي وفرق عصائب الحق الخاصة المنشقة عن التيار الصدري. في التوازي مع هذه «المقترحات»، يبدو أن الادارة الاميركية ليست بعيدة من بعض «الافلام» الأخرى. ومنها مشروعان، الأول تحدثت عنه أوساط فرنسية تميل مع مصر وبالتفاهم مع ايران إلى طرح «عادل عبد المهدي» كمرشح «تسوية» في الوقت الحاضر مع الجزم مصرياً بأن المرشح ليس تابعاً «فعلياً» للقوى المسيطرة في طهران. والمشروع الثاني يعتبر عربياً – تركياً بمباركة اميركية ويقترح الشخصية المذكورة نفسها مع ضمانات تركية أكيدة بأن هذا الاقتراح يمنع الوصول إلى الحل القيصري الجذري الذي تفكر به بعض مراكز القوى في الادارة الاميركية. بيد أن الأمر اللافت للانتباه أن الكثير من التصريحات «الهوائية» الصادرة من القوى المختلفة في العراق تشير مع بعض التناقضات إلى أن الموقف «الايراني» حالياً أضعف من أن يعرقل الحلول المطروحة السابقة. والدليل عند هؤلاء هو فشل الجنرال قاسم سليماني في إدارة الملف «الشيعي» ولجوء مكتب المرشد إلى اقتراح تسلم علي لاريجاني هذا الملف والسعي حثيثاً لترميم التصدعات التي هدمت «البيت الشيعي» السياسي. ويعتقد المقربون من لاريجاني أن استراتيجيته تتلخص في: أولاً، بقاء الشيعة في الحكومة والزحف نحو الدولة. ثانياً، تداول الحكومة بين فرقاء الشيعة. ثالثاً، منع ديكتاتورية فريق أو حزب شيعي معين. هذه الطروحات «العقلانية» ترفضها الادارة الاميركية وتشكل عقبة كأداء حالياً في قضية تشكيل الحكومة وتحقيق «المصالحة الوطنية» الشاملة التي ترغب بها تركيا والنظام العربي الرسمي قاطبة. بل إن هناك شكوكاً كبيرة تحوم حول هذه الخطط ومصدرها الغرف الخاصة في المرجعية ومستوياتها الاكليروسية المتعددة. وعليه يمكن القول إن التقارب بين «العراقية» و «المجلس الأعلى» مؤخراً على قاعدة رفض التجديد للوزير المنتهية ولايته يمثل الحلقة المركزية الآن «تكتيكياً» في المشهد السياسي وليس الرغبات الحالمة «استراتيجياً» لدى بعض «مكونات» الكوندومينيوم السياسي في العراق ومهما كانت منابع هذه التصورات أو الأحلام. لا يختلف الجميع بأن الحل «التكتيكي» موقت وبانتظار التطورات المقبلة المهمة. ولكن الحل «الاستراتيجي» قمين بالتحقق من خلال الارادة السياسية العراقية الموحدة وقدرتها الفائقة على قراءة التحولات الجيوسياسية المقبلة في حالة الانهيار المتوقع للكوندومينيوم الخارجي في العراق وبزوغ مقدمات الاستقلال الديموقراطي والسيادة الوطنية الموحدة والكاملة.