في كتابه «الثورة العربية: عشرة دروس عن الانتفاضة الديموقراطية» (فايار)، أول درس يستخلصه جان بيار فيليو من الثورات العربية أن العرب ليسوا استثناء في عالم اليوم، فهم ليسوا بشعب يعيش خارج التاريخ أو يملك جينات تأنف من الديموقراطية والحرية وتستمرئ الذل والقهر. الكل تعوّد وفق فيليو على الحديث عن «محنة» أو «مأزق» أو «يأس» عربي، بل وحتى عن «اللعنة» العربية، عن منطقة ترفض الديموقراطية من المحيط إلى الخليج، والكل دأب على ربط ذلك بهوية عربية، بل وبالبعد النفسي لهذه الهوية، مستحضراً ما سطرته أقلام المستشرقين من كليشيهات عنها. لكن بعيداً عن هذه النظرة الثقافوية المبتسرة، فإن «العرب» كانوا وما زالوا يعيشون التخلف على جميع المستويات، وقد جاءت تقارير التنمية الأممية في بداية الألفية وعلى امتدادها، شاهدة على الفساد المستحكم في العالم العربي وإخفاقاته في جميع المجالات، ويرى فيليو أن هذه الأوضاع المأسوية ارتبطت بنظام ديكتاتوري كان يلقى وإلى وقت قريب كل الدعم من الولاياتالمتحدة الأميركية خصوصاً بعد أن انخرطت الأنظمة العربية في الحرب الأميركية على «الإرهاب». إذ لم يتأخر الحكام العرب عن «أداء واجبهم»، فعمدوا إلى استغلال هذه الحرب من أجل القضاء على أي شكل من أشكال المعارضة، وليس فقط الإسلامية أو الإسلاموية منها. أما الدرس الثاني الذي يستقيه فيليو من هذه الثورات فيتلخص في عنوان الفصل الثاني من كتابه «المسلمون ليسوا فقط مسلمين». إنه يبدأ في هذا الفصل بانتقاد القراءات التبسيطية والانتقائية للإسلام، التي غالباً ما تعمد إلى إخراج نصوصه وتقاليده من سياقها الذي ولدت فيه، لتصدر حكماً نهائياً على ثقافة قي مجملها. وفي سياق هذه القراءات غير العلمية، تلك التي تدافع عن الكليشيه القائل إن العالم الإسلامي لم يعرف قط فصلاً بين الدين والدولة. يرى عالم السياسة الفرنسي أن هذا الحكم خاطئ في الماضي كما في الحاضر. ففي رأيه بدأ انفصال السياسة عن الدين في التاريخ الإسلامي منذ أواسط القرن الثامن، حين بدأ علماء الشرع بتحرير مؤسساتهم وتعاليمهم من سيطرة مؤسسة الخلافة، واستمر هذا الصراع على أشده مع الأمويين في دمشق والعباسيين في بغداد. كما أنه برأي فيليو لم ولن يكون هناك بابا مسلم يتحدث باسم المسلمين ويقرر نيابة عنهم. إن الإسلام برأيه دين تعدد ودين لامركزي وهو يغذي مواقف واتجاهات مختلفة ومتباينة، تتعارض مع كل قراءة أحادية البعد. بل إنه يرى أن الاستعمار الغربي هو الذي سد البون الذي كان قائماً بين المجالين السياسي والديني في البلدان الإسلامية. فقد سعت القوى الاستعمارية إلى مراقبة حرية الكلمة لدى علماء الدين ولهذا عمدت إلى بناء بيروقراطية دينية تعمل تحت سيطرتها وعلى رأسها مفتٍ، يساعده أئمة وقضاة شرعيون. ولعل هذا ما دفع الإخوان المسلمين بحسب فيليو إلى الثورة على رؤية الدولة للدين، كما أن الشيعة ظلوا يرفضون أي مزج بين المجالين، ولهذا ينظر فيليو إلى الثورة الإيرانية كانقلاب للخميني أيضاً ضد بقية آيات الله الذين رفضوا أي علاقة مباشرة بالسلطة السياسية. كما يرى أن هذه البيروقراطية الدينية هي التي ما زالت تبرر سياسات الديكاتوريين في العالم العربي. ويرى فيليو في الطابع اللارأسي للثورة، أي قيام الثورة وتحققها دونما حاجة إلى زعيم يقودها، نقلة كوبرنيكية. فالمشاعر السياسية للعرب ظلت ولعقود مرتبطة بالزعيم الكاريزمي الذي يضحي الناس من أجله بالروح والدم، وقد وصلت عبادة الزعيم أقصى مستوياتها مع جمال عبد الناصر، حين خرج الملايين إلى الشوارع في حزيران (يونيو) 1967 مطالبينه بالبقاء في السلطة رغم مسؤوليته الواضحة عن هزيمة مصر والعرب ضد إسرائيل. وهي الصور نفسها التي عاشها العربي في ليبيا مع انقلاب القذافي عام 1970 أو في تونس بعد الإطاحة ببورقيبة. لكن الأمور تغيرت اليوم وبشكل راديكالي كما يسجل فيليو، معتبراً أن الهدف من الثورة اليوم ليس تغيير زعيم بزعيم، بل الثورة على منطق الزعيم مرة وللأبد. لقد دفنت الثورات العربية «صاحب الساعة» ومعه منطقه المانوي إما أنا أو الفوضى. أو: إما أنا أو الإرهابيون، بعد أن توضّح للعالم من خلال هذه الثورات أن الديكتاتورية هي المسؤولة المباشرة عن الفوضى والعنف والتطرف الديني، وبذلك تكون الثورات العربية قد حققت على المستوى المعرفي هدفين على الأقل، لا يمكن البتة بعد اليوم التراجع عنهما: فمن جهة كشفت الوجه البشع للديكتاتور العربي، مصاص الدماء وقاتل الأطفال والنساء، ومن جهة ثانية فضحت الأساطير الغربية عن مجتمعات عربية - إسلامية معادية في طبيعتها للديموقراطية والحرية. ما جعل الغرب يتحالف مع الديكتاتوريات، ليس فقط ضد الإسلاميين ولكن ضد شعوب المنطقة وإرادتها. يكتب جان بيار فيليو في مقدمة كتابه بأن الثورات العربية كان لها فعل الصدمة في المنطقة بأكملها وأنها أطلقت التاريخ من عقاله. لقد «سقط جدار برلين العربي»، والذي لم يكن سوى جدار الخوف الذي نجحت الديكتاتوريات ولعقود في بنائه وتسييجه. جدار أسقطته الثورة العربية الحالية التي يقرأها فيليو كامتداد لعصر النهضة العربي الأول، لآماله وأفكاره. قراءة قد نتفق معها وقد نختلف، لكنها تؤكد مرة أخرى بأن تاريخ العرب المعاصر، هو تاريخ البحث الطويل والمضني عن الحرية. * كاتب مغربي