في أحد مداخل «ميدان التحرير»، في وسط القاهرة، وبعد المرور على لجنة شعبية، الساعة الثانية الأربعاء 25 كانون الثاني (يناير) الماضي، يوم الذكرى الأولى للثورة المصرية، لم تكن مسيرات الشباب والليبراليين واليسار قد أتت بعد إلى قلب الميدان، إذا بأحد الحضور يوقف النائب عن حزب «الوفد» عصام شيحة الذي كان متجهاً إلى الميدان، وقال له بعد التهنئة على الفوز بعضوية البرلمان :»إنني أحملك رسالة للدكتور الكتاتني رئيس المجلس الجديد. لقد تحمل الإخوان الظلم كثيراً، فعليهم ألا يظلموا الشعب المصري، نحن ننتظر منهم الكثير ولا نريد تأخيراً، فالشعب متعب ويريد حلولاً». كانت الرسالة على رغم بساطتها تعبيراً عن اقتناع جزء من الشعب المصري بأن الإخوان وحزبهم «الحرية والعدالة»؛ الفائز الأكبر في الانتخابات يمكن أن يكونوا على قدر المسؤولية التي منحها الشعب إياهم في انتخابات برلمانية نزيهة لم تشهدها مصر من قبل، ويمكن أن يأتي على أيديهم ما يخفف معاناة الناس. غير أن هذه الرسالة العفوية من مواطن بسيط لم تصمد كثيراً أمام وقائع ما بعد ظهر الأربعاء واليومين التاليين اللذين شهدا ما يمكن وصفه بالمدفعية الشبابية والليبرالية واليسارية الثقيلة الموجهة إلى الإخوان جنباً إلى جنب «المجلس العسكري». قوام هذه المدفعية جاء في صورة إبعاد الإخوان من «ميدان التحرير» والتشويش على منصتهم ورجالاتهم، وجاء أيضاً في صورة شعارات قاسية مست أعلى قيادات الإخوان واتهمتهم ببيع الثورة والثوار من أجل حفنة مقاعد في البرلمان. وهكذا ببساطة وجد الإخوان أنفسهم مع الخائنين للثورة وبائعي دم الشهداء وأصحاب صفقة مع «المجلس العسكري» ليفوزوا بالبرلمان، ومن ثم يحكم العسكر من وراء ستار. كانت لحظة صادمة لأعضاء الإخوان في الميدان ورموز قيادية ذهبت إلى هناك، أن يروا بأعينهم من يريد أن يفتعل معهم شجاراً وصداماً، ومن ينكر عليهم تضحياتهم ومن يصفهم بسارقي الثورة ومن يرفع في وجه منصتهم والمتحدثين عليها الأحذية. المرجح هنا أن قيادات «الإخوان المسلمين» وأعضاءها لم يتصوروا يوماً أن يكونوا مدانين بالتخاذل والتخلي عن الثورة كما حدث بالفعل فى أيام الذكرى الأولى لثورة يناير. والمرجح أيضاً أنهم لم يتصوروا أن يكون فوزهم بأكثرية نيابية معتبرة تقارب نصف البرلمان دليل إدانة كما تروج قوى شبابية وتيارات ليبرالية وأخرى يسارية تقترب من الفكر الفوضوي، وليس دليل شعبية. والمرجح ثالثاً أن هذه القيادات التي سمعت النقد القاسي والكلمات اللاذعة من مجموعات في الميدان لم تتصور من قبل أن القوى الثورية الجديدة لا تراعي نضالها وتضحياتها على مدار ثمانية عقود، ولا تراعي كم المظالم التي تعرض لها أعضاء الجماعة، وأن يتم النظر إليها كما كان يحدث مع قيادات الحزب الوطني المنحل. إنها المحنة والابتلاء، محنة السياسة وتقلب الأوضاع، وابتلاء الحكم والسلطة. وكلاهما جزء من مشهد سريالي كبير بات يسيطر على عقول وتحركات العديد من القوى السياسية والقوى الشبابية التي تملك القدرة على الحشد عبر الشبكات الاجتماعية ورفع الشعارات الموجزة الحارقة والبراقة معاً، وإدانة المختلفين معها ووصمهم بكل ما هو سلبي والمطالبة بكل شيء والآن وفوراً، والتفنن في فقد وإفقاد الثقة في كل شيء بما في ذلك الحقائق الدامغة، يدعمهم في ذلك آلة إعلامية خاصة تخاف على نفسها أكبر من خوفها على وطنها وعلى الحقيقة ذاتها. حصل حزب الإخوان على أكثرية برلمانية... نعم، ولكنها بدت أكثرية مغلوبة على أمرها وكأنها فعلت فعلة شنعاء، إذ نجح المعارضون لها الذين لم يحصل ممثلوهم إلا على عدد محدود جداً من المقاعد البرلمانية، وفي بعض الأحيان بدعم من جماعة الإخوان ذاتها، في تصوير الجماعة وحزبها بأنهم مشتركون في صفقة مشينة أضاعت على الثوار حقوقهم في الحكم والسيطرة وإقصاء الآخرين بجرة قلم. وهنا، على الإخوان أن يدركوا أن وجودهم في الشارع وتمتعهم بثقة ما يقرب من نصف الناخبين لا يشكل وحده حائط صد كافياً لكل حملات التشكيك في التزامهم أهداف الثورة، فالإعلام الذي يحمل وجهة نظرهم يبدو ضعيفاً وغير مؤثر، ومجرد تمسكهم بمرجعية إسلامية يؤخذ عليهم ويعد نقطة قوة للطرف الآخر. كما أن التزامهم خطة الطريق التي تضمنها استفتاء آذار (مارس) الماضي والإعلان الدستوري، يعدان سبباً قوياً لمهاجمتهم من قبل الشباب والليبراليين والفوضويين معاً. الأمر على هذا النحو ليس مجرد مفارقة واختلاف بسبب تقييم يوم 25 كانون الثاني، هل هو عيد للاحتفال أم مناسبة للذكرى أم بداية لثورة جديدة وغضب مزمن، فكل هذه قشور تغلف الصراع الحقيقي بين قوة تؤمن بالدولة ذات مرجعية إسلامية، وتعرف معنى السياسة بما فيها من شد وجذب والتوصل إلى التفاهمات وأيضاً الصفقات السياسية المشروعة مع الآخر، ولديها مشروع فكري ونظام للتنشئة تطور على مدى عقود، وتؤمن بالمؤسسة وضوابطها، وبين قوى متحمسة أياً كان اسمها يغيب عنها الانضباط المؤسسي وتؤمن بالليبرالية المتطرفة إلى حد إقصاء كل المخالفين معها، ولا ترى في الدولة القائمة إلا ركاماً من الفساد، تطالب بالتطهير الفوري ومن دون ضوابط قانونية إلا شعاراتهم الخاصة، وتعمل للهدم أكثر مما تعمل للبناء، لا تعترف بشرعية الانتخابات ولا الاحتكام إلى الناس وهم أساس شرعية أي شيء في النظم الديموقراطية ودول القانون، ويرون أن حركة الشارع والميدان هي الأصل، وأن المؤسسات مجرد وهم لا معنى له، وأن الاحتجاج هو المسار السليم، وأن البرلمان والإخوان داخله هو مؤسسة مفتعلة وشرعية مصطنعة على حد قول أحد الشباب بحسم يُحسد عليه وبزهو شديد في أحد برامج تلفزيون الدولة مساء الجمعة 27 كانون الثاني، وذلك أمام أحد كبار أساتذة العلوم السياسية الذي لم يرد ولم يعقب ولو بكلمة واحدة. ويمكن أن نزيد أن المسألة بين الإخوان والقوى الجديدة القديمة معاً ليست مجرد خلافات على دور المجلس العسكري وهل حمى الثورة أم سرقها، وهل أخطأ بحسن نية أم بتعمد وقصد، وهل نياته الحقيقية هي تسليم السلطة في موعدها المعلن نهاية حزيران (يونيو) المقبل أم الالتفاف على ذلك، فكل ذلك هو من قبيل الجدل الإعلامي وحسب. أما جوهر الأمر فهو أننا أمام صراع بين أكثر من مشروع سياسي يتعلق بمستقبل مصر، أحدها مشروع الإخوان يقابله مشروع الحرية المفرطة والثورة الدائمة. يميل الإخوان حتى اللحظة إلى التعامل مع المتغيرات بهدوء وروية وحذر، يطلقون التصريحات والبيانات في كل اتجاه رغبة في التوافق أو التفاهم على بعض أمور مع هذه القوة أو تلك، عيونهم على الخارج بقدر ما هي على الداخل، يرغبون في أن ينجحوا كحاكمين ملتزمين شرع الله كما يفهمونه ومصلحة الأمة والجماعة ليحققوا الأمنية الغالية للإمام المؤسس حسن البنا، يؤكدون مدنية الدولة لعل ذلك يخفف العداء ضدهم والتعبئة عليهم، ويمدون أيديهم إلى الجميع. ويخافون في داخلهم أن يحدث لهم ما حدث ل «حماس» بعد أن أقصت «فتح» من غزة وسادت كل شيء هناك فكان الحصار والعزلة والمعاناة، ويرون أن الاحتماء بالآخر في الوطن هو فريضة هذا الزمان ومخرج الأمان. هنا تبرز أهمية رسائل الاطمئنان التي ركز عليها المرشد العام محمد بديع، وكذلك تصريحات الكتاتني بعد انتخابه رئيساً لمجلس الشعب والتي حملت تمسكاً بأهداف الثورة كما تعلنها القوى الأخرى من دون نقص أو زيادة، وحملت أيضاً انفتاحاً على الجميع في الداخل وفي الخارج. وفي السياق ذاته أتت تصريحات ذات طابع ثوري لرموز في حزب «الحرية والعدالة»، حمل بعضها نقداً مباشراً للمجلس العسكري لعل ذلك يفيد في تهدئة مخاوف نقد المناوئين. ومع ذلك لم تؤت هذه التحركات ثمارها بعد. وما حدث في «ميدان التحرير» والمناوشات مع أعضاء الحزب يفيد بأن المسألة قابلة للتطور إلى مواجهة مفتوحة، خصوصاً أن الليبراليين واليساريين الذين حصلوا على جرعة ثقة كبيرة بالنفس سيضمون إلى قائمة المستهدفين الإخوان وحزبهم إلى جانب «المجلس العسكري» ومؤسسات الدولة المصرية كافة. لا يدرك الإخوان بعد أن رصيدهم في الاضطهاد والظلم والمعاناة في السجون والحصار المتكرر سياسياً وقانونياً وإعلاميًا لا يمثل بالنسبة لبعض القوى المناوئة لهم أي شيء، فهذه القوى لا ترى إلا نفسها وحسب، ولا يهمها إلا ما تسعى إلى فرضه وفق صيغة ديكتاتورية الأقلية العالية الصوت المدعومة من الخارج سواء تحت دعاوى حقوق الإنسان أو التحول الديموقراطي أو التماهي مع المطالب والشروط الأميركية والأوروبية حتى ولو قصمت ظهر الوطن وخلعت سيادته وأشاعت فيه الانفلات وكسرته كسراً. وعلى رغم جهود الإخوان وحزبهم صاحب الأكثرية البرلمانية الأولى بعد الثورة، لا تبدو قياداتهم قادرة على مجاراة عمليات التلاعب اللفظي والإعلامي التي يجيدها الطرف الآخر، فعلى رغم الضعف الموضوعي لهذه التلاعبات اللفظية والإعلامية، واستهجان جزء كبير من الشعب لها، يأتي من رموز الإخوان من يتماهى مع تلك التلاعبات متصوراً أن ذلك يصد الشكوك ويفسد التأويلات المضادة. ولا يدرك هؤلاء أن القيمة الحقيقية أن يكون هناك خطاب واضح ومحدد لا يخضع للابتزاز، بل يواجهه، وأن يكون المرء والمؤسسة صاحبي خطاب واحد وليس خطابات متعددة. * كاتب مصري