نعم، يجيب كثيرون على هذا السؤال، بعضهم بصورة عفوية تأثراً بجديد المشهد السوري حيث تتراجع أهمية صور التظاهرات اليومية الضاجّة بالفرح والرقص والغناء وشعارات الحرية والكرامة، أمام شعارات الثأر والانتقام وإعلان الجهاد، وصور المعارك العسكرية وأخبار المكاسب التي يحققها الجيش الحر، إنْ في حماية التظاهرات والاحتجاجات أو في السيطرة شبه التامة على أماكن صارت توصف بالمحررة، كما حال مدينة الزبداني ومنطقة كفر تخاريم وبعض قرى حمص وحماة ودرعا وأحيائها! وبعضهم عبر استقراء واعٍ لما يحصل والاستناد إلى مؤشرات ذات قيمة تدل على تنامي مظاهر العسكرة، وفي اتجاهين، أولهما الانشقاقات المتواترة داخل القوات العسكرية النظامية وتكاثر حالات الفرار والانضمام إلى ما سمي الجيش السوري الحر، والذي بات ينتشر في العديد من الأماكن، وثانيهما لجوء بعض الجماعات الأهلية إلى السلاح بداية لحماية النفس والمتظاهرين ثم للرد على محاولات اقتحام المناطق والأحياء. يعزز هذه المؤشرات ما يشاع عن تطبيق «العدالة المباشرة» وحصول حالات انتقام وخطف واعتقال وتبادل معتقلين، ولا تغير هذه النتيجة المؤلمة أن تأتي غالبية هذه الأفعال كرد على شدة القمع والتنكيل أو لاضطرار بعض المنشقين من الجيش لاستخدام سلاحهم دفاعاً عن أنفسهم وهرباً من موت محقق في حال اعتقالهم، مثلما لا يخفف وطأتها أن تبقى محلية الطابع وتقتصر على أماكن محدودة رداً على ما تعرضت له من انتهاك وترويع، أو لأنها لا تساوي نقطة في بحر مشهد العنف الدامي الذي تقوم به أجهزة السلطة وترك وراءه آلاف الضحايا والمعتقلين والمشردين فضلاً عن أضرار مادية وإنسانية فادحة. وتزداد قوة هذا الاستقراء باستناده أولاً إلى أصوات تتهم النظام بأنه يسعى بصورة إرادية ومخططة الى توفير شروط اندلاع حرب أهلية، بصفتها الخيار الأخير الذي يمكن الرهان عليه لإخراجه من دوامة ما هو فيه. فالنظام الذي يتمسك، وبعد مرور أكثر من عشرة أشهر، بأسلوب القمع العنيف والمعمم طلباً للحسم، ويصر على إنكار مطالب الناس وإظهارهم كأدوات تآمرية وطائفية يحل سحقها، والذي يغلق أبواب المعالجة السياسية ويستهتر بردود الفعل والمبادرات العربية والدولية، ويؤجج إعلامُه الغرائزَ والتعصب والانفعالات العدوانية المتخلفة، هو المسؤول الأول والأخير عن تهميش حقل الصراع السلمي لصالح منطق العنف والقوة والغلبة... بل وتصل هذه الأصوات إلى حد اعتبار أن مثل هذا النوع من الأنظمة، التي لا يهمها سوى ضمان امتيازاتها وبقائها في الحكم، لن يتوانى أياً تكن النتائج، عن فعل أي شيء، بما في ذلك جر البلاد كلها إلى العنف والاقتتال لخلط الأوراق وتضييع الحدود والتخوم وكسب المزيد من الوقت، عساه يتمكن من إعادة عقارب الساعة إلى وراء. وثانياً، إلى تنامي شعور لدى المحتجين بعدم جدوى النضال السلمي في هز أركان النظام القائم وتفكيك لحمته الأمنية والعسكرية، زاد الطين بلة التغيرات التي حصلت في قيادة الانتفاضة، حيث طاول القتل والاعتقال والتهجير عدداً غير قليل من الكوادر القديمة التي عرفت بنزعتها السلمية وتولت تنظيم الاحتجاجات في مراحلها الأولى، لتتقدم الصفوف عناصر أقل عمراً وتجربة، وأكثر حماسة واستعداداً للتفاعل مع بعض النتائج الايجابية التي حققها اللجوء إلى السلاح أو التهديد باستخدامه، إن في حماية التظاهرات أو في ضمان سلامة عدد من أماكن الاحتجاج الساخنة. في المقابل، ثمة من يستبعد تطور حالة الاستعصاء والاستنزاف السوري إلى حرب أهلية، معتبراً هذا الحديث مجرد تهويل غرضه تبادل الضغوط والابتزاز، إلا إذا كان القصد بهذه الحرب اصطدام أجهزة النظام وجيشه مع جماعات عسكرية بدأت تنتظم في إطار جيش مقابل، وهو ما نشهد بوادره اليوم... وطبعاً إذ يعترف أصحاب هذا الرأي بتصاعد بعض وجوه العنف المضاد وما يخلفه من أذى اجتماعي وإنساني، لكن الأمر لم ولن يصل إلى الحرب الأهلية، ليس فقط لأنها في رأيهم تطور مرفوض عند غالبية الأطراف العربية والدولية نتيجة احتمال انتشارها وتكلفتها الباهظة على الجميع وتالياً تأثيرها على الاستقرار السياسي في المنطقة، بل لرهانهم على ما يعتبرونه وعياً أصيلاً لدى السوريين بأخطار الانزلاق إلى حرب أهلية. فذاكرتهم مشبعة بصور المآسي والآلام التي تكبدها الشعبان اللبناني والعراقي، وأخيراً الليبي نتيجة الاقتتال الأهلي، ويصعب عليهم أن ينسوا ما ذاقوه بأنفسهم من مرارة الصراع بين النظام والإخوان المسلمين زمن الثمانينات، ثم أن البنية النفسية للشعب السوري تميل في رأيهم نحو التوافق والتسامح، في ضوء تعايش تاريخي وتداخل جغرافي مذهل بين مكوناته المختلفة، العرقية والدينية والمذهبية. والحال، إذ تعني الحرب الأهلية وببساطة اقتتالاً يصل حد الاستئصال والإفناء بين جماعات مختلفة من الناس في البلد الواحد، لدوافع متنوعة، منها القومي ومنها الطائفي أو المذهبي، ومنها القبلي، وغالباً مزيج من كل ذلك، وإذ تصل بمسارها وفظاعتها وباستباحتها لأبسط القوانين والأعراف الإنسانية وبما تكرسه من البغضاء والحقد، إلى حد تدمير المجتمع وتفكيك مقومات الحياة المشتركة ومعايير المصلحة الوطنية الجامعة، فإن الحديث عنها ما كان ليثار في الحالة السورية، لولا انسداد الأفق واستحكام الاستعصاء مع إصرار أهل الحكم على الخيار الأمني والعسكري والتوغل أكثر في القمع والقهر والتنكيل... وأيضاً لولا استمرار العجز العربي والعالمي عن المساعدة في وقف العنف والقمع المعمم وفرض مسارات سياسية لمعالجة الأوضاع المتفاقمة. تؤكد هذه الحقيقة الصعوبات التي تعترض الملف السوري في مجلس الأمن وعطالة المبادرة العربية وفشل بعثة المراقبين في تنفيذ بنودها، وأخيراً لولا استمرار الموقف السلبي لقطاعات مهمة من المجتمع السوري لا تزال خائفة لأسباب عديدة، ومحجمة عن الانخراط في عملية التغيير وتستسلم لتشويش ومبالغات مغرضة في قراءة أحوال الانتفاضة الناهضة ومآلها، ربطاً بتقصير المعارضة السورية في طمأنتها وفي ابتداع أشكال من النضال السلمي تكسر الاستعصاء، وتُشعِر الحراك الشعبي بالجدوى وبتحقيق خطوات ملموسة إلى أمام.