كان المرشد الإيراني، الإمام علي خامنئي، يقول أن الثورات العربية إستلهمت نموذج الثورة الإيرانية. لم يعد الآن يركز على هذه النقطة تحديداً. صارت هذه الثورات بالنسبة اليه «صحوة إسلامية». وتحت هذا الشعار نظمت إيران الاسبوع الماضي مؤتمرها الثاني بإضافة «الثورة» إليه. الأرجح أن هذا التغير، أو الإلتفاف، حصل نتيجة لردود الفعل العربية التي رفضت تماماً فكرة أن الثورات العربية إستلهمت النموذج الإيراني. وذلك لسبببين: الأول أن هذه الثورات ليست ثورات دينية، كما كانت الثورة الإيرانية، والثاني أن صفة الإسلامية لا يجوز حصرها في الجانب الديني. فمع أن صفة «الإسلامية» تنطبق على الثورات العربية، إلا أن لها صفة أخرى تتكامل معها، وهي صفة الوطنية والعروبة. يريد المرشد، كما يبدو، وإتساقاً مع موقفه الديني والمذهبي، إستبعاد صفة العروبة، والتقليل من شأنها بإعتبارها صفة قومية تتناقض مع الإسلام. لكن هذا موقف تجاوزه الزمن، ويصطدم مع التاريخ الحقيقي لهذه الثورات، فضلاً عن أنه يعيد صدام العروبة مع الفارسية. وهو أمر ليس في صالح إيران، ولا في صالح العرب. يريد المرشد توظيف الثورات العربية كحدث تاريخي كبير لمصلحة إيران سياسياً. لكن من الواضح أنه أخطأ الطريق إلى ذلك. لأنه بمواقفه وتصريحاته وخطبه عن هذه الثورات يسيء إليها، ويشوّه صورتها، ويجعل من نفسه أباً روحياً لها، في حين أنه لا علاقة له، ولا للنظام الإيراني، بأي من هذه الثورات، لا من قريب ولا من بعيد. وهو بمثل هذه المواقف يعمق الحواجز بين إيران والعالم العربي، وهي حواجز قومية ومذهبية. وإلا فما هو مبرر إلصاق صفة «الصحوة الإسلامية» بالثورات العربية، وهي صفة لا أساس لها من واقع هذه الثورات، ولا من شعاراتها، وأهدافها المعلنة؟ كأن المرشد يحاول بذلك طمأنة الشعب الإيراني بأن الثورات العربية لا تعني تراجع وهج «الثورة الإسلامية». أين أخطأ المرشد؟ في أمرين: أخطأ في التوصيف، ثم في عدم الصدق والشفافية مع العالم العربي. وكان هذا واضحاً في خطبة الجمعة الماضية، التي كانت بمناسبة الذكرى ال33 للثورة الإيرانية. في التوصيف حصر المرشد هدف الثورات العربية في شيء واحد، وهو كما قال التحرر من « قرن من التحقير والاستبداد والتخلّف والاستعمار والفساد والفقر والتمييز»، مضيفا «أن كل ادعاء آخر في شأن طبيعة هذه الثورات ... إنما هو تجاهلٌ للواقع من أجل أهداف مبطَّنة وبالتالي لدفع هذه الثورات نحو الانحراف». هل يمكن أن المرشد قصد بقوله هذا أن الدول العربية التي حصلت فيها الثورات كانت تحت الإستعمار؟ أي إستعمار هذا؟ أم أنه يقصد شيئاً آخر، مثل الهيمنة الغربية؟ أما أن الدول العربية تطمح إلى التحرر من التخلف والفساد والفقر والتمييز، فهذا صحيح. لكن المرشد تجاهل بشكل كامل، وعن عمد كما يبدو، أن هناك هدفاً آخر وأسبق للثورات العربية، وهو التحرر من الإستبداد، وإستعادة الشعوب حقها الطبيعي في الحرية والكرامة والحكم الرشيد. لماذا تجاهل هذا الهدف المركزي لكل الثورات العربية؟ هل لهذا علاقة بحقيقة أن النظام السوري الذي يرتبط المرشد معه بعلاقة تحالف متينة، هو الأكثر إستبداداً من بين كل الأنظمة التي واجهت الثورة؟ كأنه لم يتسنَّ له متابعة المشهد السياسي في البلدان العربية التي شهدت الثورة، بما في ذلك الجدال السياسي والدستوري، وأن المحور الوحيد الذي تدور حوله كل الأحداث في هذا المشهد هو الحرية كحق طبيعي للمواطن، والديموقراطية كآلية لتداول السلطة، والوطنية العربية الإسلامية كصفة للدولة، والدستور الوضعي كمرجعية للدولة ولعلاقتها بالمجتمع والفرد. لعل المرشد أيضاً لم يطّلع على وثيقة الأزهر. وربما أنه تجاهلها بالكامل، رغم أنها واحدة من أهم الوثائق الفكرية السياسية التي أفرزتها الثورات العربية، وصادرة عن واحد من أبرز المؤسسات الدينية في العالم الإسلامي. والأهم من ذلك أنها وثيقة توافقت عليها كل التيارات السياسية في مصر: أقباط ومسلمون، ليبراليون ومحافظون وسلفيون ويساريون، ...الخ. إلى جانب ذلك أخطأ المرشد في أنه لم يخاطب الجمهور العربي الذي توجه إليه في الجزء الثاني من خطبته بالصدق والشفافية التي يفرضها الموقف. فهو إعترف كعادته بالثورات العربية، ما عدا الثورة السورية. لماذا؟ الجواب صار معروفاً، وهو أن النظام السوري هو الحليف العربي الوحيد لإيران في المنطقة، وبالتالي فإن سقوطه يمثل خسارة إستراتيجية لإيران. وعلى هذا الأساس فإن عدم إعتراف المرشد بالثورة السورية هو تعبير مباشر وأناني عن مصلحة إيرانية صرفة، وليس مصلحة سورية أو عربية. من حق المرشد تماماً أن يحرص على مصلحة إيران، لكن ليس من حقه أن يدّعي عكس ذلك بخطاب أخلاقي مزيف، ولا يمس حقيقة الحدث كما هو، وليس كما يراد له أن يكون. ثم كيف يجيز المرشد لنفسه أن يصف ثورة شعب من أجل حريته بأنها «مؤامرة أميركية صهيونية»؟ ولماذا يتجاهل حجم القمع والقتل الشنيع الذي يمارسه النظام السوري ضد شعبه، وهو قتل تجاوز في حجمه وبشاعته ما حصل في الثورات العربية الأخرى، ما عدا الثورة الليبية؟ في موقف المرشد من الثورة السورية جرأة على ذكاء الشعوب وحسها التاريخي لا يبدو أنه يدرك مدى حساسيته وخطورته. وتتأكد هذه الجرأة في حديث المرشد عن الطائفية، عندما قال إن «إيران لا تستهدف نشر التوجّه الإيراني أو الشيعي بين المسلمين. إيران تنهج طريق الدفاع عن القرآن والسنّة وإحياء الأمة الإسلامية. الثورة الإسلامية تعتقد أن مساعدة المجاهدين من أهل السنّة في منظمات «حماس» و «الجهاد»، والمجاهدين الشيعة في «حزب الله» و»أمل» واجب شرعي وتكليف إلهي دونما تمييز بين هذا وذاك». هل صحيح أن إيران لا تفرق بين «حماس» و»حزب الله» اللبناني؟ ولا تفرق بين السنّة والشيعة في العراق؟ مواد الدستور الإيراني، وهو مرجعية المرشد، لا تسند ما قاله هنا. على العكس تؤكد مجتمعة وفرادى على الطبيعة المذهبية للنظام السياسي الإيراني. من ذلك المادة الثانية التي تنص على «الإمامة والقيادة المستمرة، ودورها الأساسي في ديمومة الثورة». والمادة الخامسة تنص على أن ولاية الأمر والأمة «في غيبة الإمام المهدي عجّل الله تعالى فرجه، .... تكون للفقيه العادل التقي، ....، الذي تعرفه أكثرية الجماهير وتتقبل قيادته...». كلا المادتين تحصر قيادة الدولة في الطبقة الدينية من فقهاء المذهب الشيعي. وهو ما يتناقض مع صفة الجمهورية التي تتخذها الدولة الإيرانية، وبالتالي مع الصفة الوطنية التي تشمل جميع المواطنين، وتساوي بينهم بغض النظر عن الدين أو المذهب. والمادة 12 تنص على أن «الدين الرسمي لإيران هو الإسلام، والمذهب الجعفري الإثنا عشري. وهذه المادة غير قابلة للتغيير إلى الأبد ..» لاحظ النص هنا ليس فقط على مذهبية الدولة، بل وعلى أبديتها. وأخيراً المادة 115 التي تشترط أن يكون المرشح لرئاسة الجمهورية «مؤمناً بمبادئ الجمهورية الإسلامية، والمذهب الرسمي للدولة.» أي أن منصب رئاسة الجمهورية، إلى جانب منصب المرشد، حقي حصري للطائفة الشيعية من بين مكونات الشعب الإيراني. وتمشياً مع ذلك تستند السياسية الإيرانية في المنطقة إلى تحالفات طائفية، كما هو واضح في العراق ولبنان. السؤال في هذه الحالة: إلى جانب أميركا، من الذي يعمل على تعميق الإنقسام الطائفي في المنطقة؟ مواد الدستور الإيراني، وطبيعة السياسة الإيرانية الخارجية، تؤكد أن الثورات العربية تجاوزت الثورة الإيرانية، وشكلت معها قطيعة سياسية ومعرفية، لأنها ثورة دينية حصرت نفسها في إطار مذهب واحد من المذاهب الإسلامية. ولعلي هنا أحيل المرشد إلى نص وثيقة الأزهر، ونص الدستور التونسي، لعله يرى إلى أي حد تم تجاوز الثورة الإيرانية، ونص الدستور الإيراني، وأنه لم يعد من الحصافة السياسية للقادة الإيرانيين مخاطبة العرب بما يتناقض مع مرجعهم الدستوري. * أكاديمي وكاتب سعودي