عندما جرى نقل الإعلامي جهاد مقدسي من سفارة سورية في لندن إلى وزارة الخارجية في دمشق، أدرك السوريون أن النظام ليس راضياً عن الأداء السياسي الذي يدافع به المسؤولون عن سمعة الدولة وعملياتها الأمنية. وعلى امتداد شهر تقريباً، تولى مقدسي مهمة تفسير، أو تبرير المواقف السياسية والعسكرية التي تشهرها الدولة في وجه المجلس الوطني المعارض وهيئة التنسيق الوطنية. ومع أن هامش المناورة الذي رسمته له الخارجية لم يكن وسيعاً كما ينبغي، إلا أن الاختبارات التي كسبها في لندن، وفرت له وسائل متطورة في فن الحوار والنقاش والإقناع. فجأة، أطل وزير الخارجية وليد المعلم من خلال ندوة صحافية، دعيت لحضورها عناصر أجنبية ولبنانية، جاءت من بيروت لنقل وجهة نظر النظام. وكان ذلك بمثابة إيذان لتهميش دور الوكيل واسترجاع دور الأصيل. وفي هذا الدور أطل المعلم من خلال الخطاب الذي ألقاه سفير سورية في الأممالمتحدةبشار الجعفري، ليؤكد أن النظام ما زال يعيش أوهام الحقب التاريخية الغابرة. ذلك أنه بدأ خطابه الماراثوني بانتقاء بيت من شعر المرحوم نزار قباني. ثم عبر عن شوقه لرائحة الياسمين في الأحواض الدمشقية. كذلك استرجع صدى التظاهرات المؤيدة لثورة الجزائر. وعندما بلغ حديثه مرحلة الاستعمار وسايكس – بيكو ولورانس العرب، كان نصف مندوبي الجلسة قد استسلم لسلطان النعاس، بحسب ما أظهرتهم شاشات التلفزيونات. وقبل أن يصل إلى لب المشكلة، عرّج على القضية الفلسطينية ليذكر الحضور بأن مئات القرارات لا تزال مدفونة في أدراج المنظمة الدولية. لقد تعددت الدلالات التي نسبها وزراء خارجية الدول الكبرى ومندوبو البعثات... إلى وليد المعلم. وتجلى إعجابهم بهذه الديبلوماسية الفريدة التي شغلت الحضور عن التركيز على الموضوع الأساسي المتعلق بمناقشة مشروع القرار العربي – الغربي حول سورية. أي المشروع الذي عرضه أمين عام الجامعة العربية نبيل العربي والشيخ حمد بن جاسم، رئيس وزراء قطر. كان الوزير المعلم بالتنسيق مع الرئيس بشار الأسد، قد أعلن في مؤتمره الصحافي، عن رفض سورية لمشروع اعتبره توطئة لتدويل قضية داخلية تتعلق بالسيادة الوطنية. وتحدث عن العلاقات المتجذرة مع روسيا، مؤكداً أن موسكو لن تقبل بأي تدخل خارجي في شؤون بلد صديق. «كما لا نقبل نحن بأي محاولة تقوم بها دول عربية أو غربية، لرسم مستقبل هذه البلاد بعيداً عن إرادة شعبها وكأنها دولة مسلوبة الإرادة». جاء هذا التعليق كرد على المبادرة العربية الثانية التي طبخت في القاهرة داخل الاجتماع الوزاري. وكانت تهدف إلى وقف شلال الدم ومنح فرصة جديدة لإنهاء النظام السوري، بطريقة سلمية. وقد تألفت هذه المبادرة من البندين التاليين: أولاً – يفوض الرئيس بشار الأسد نائبه فاروق الشرع بصلاحيات الرئاسة كاملة، على أن يبدأ المشاورات لتشكيل حكومة وحدة وطنية، يفترض أن تكون جاهزة خلال شهرين. ثانياً – من المستحسن أن تترأس حكومة الوحدة الوطنية شخصية محايدة يتفق عليها الجميع تنحصر مهمتها في الإعداد لانتخابات رئاسية وبرلمانية تعددية بموجب قانون ينص على تاريخ إجرائها بإشراف عربي ودولي. مقابل رفض بشار الأسد هذه المبادرة التي رأى فيها التفافاً على موقف مؤيديه، أعلن الدكتور برهان غليون، رئيس المجلس الوطني السوري، رفضه أيضاً القبول بمبادرة تعطي حزب البعث حق المشاركة في حكومة وحدة وطنية، كما تعطي نائب الرئيس مسؤولية رسم خطوط المرحلة المقبلة. رئيس لجنة الشؤون الدولية في مجلس الاتحاد الروسي ميخائيل مارغيلوف، وصف الوضع السياسي في سورية بأنه وصل إلى طريق مسدود. وقال إن مبادرة الجامعة العربية تدعو إلى تخلي بشار الأسد عن السلطة، في حين ترفض سلطات دمشق هذا الحل. وذكر في تصريحه أن بلاده تسعى إلى نقل المبادرة التي اعتمدتها أسلوباً للتسوية في اليمن. ولكن الأسد لا يرضى بمغادرة البلاد إلى روسيا أو إيران أو أي بلد آخر، مثلما فعل الرئيس علي عبدالله صالح. يقول الديبلوماسيون في دمشق إن النظام وعد موسكو بإنهاء حالات التمرد، شرط مساعدته على تمديد فترة التسوية. والسبب أنها تتوقع حصول صدام بين العقيد رياض الأسعد، مؤسس الجيش السوري الحر، والعميد مصطفى الشيخ. وكان العقيد الأسعد قد انشق خلال الصيف الماضي وأنشأ في شهر تموز (يوليو) قاعدة في تركيا جمعت حوله أكثر من عشرين ألف مقاتل. ولما ازدادت حركة التطوع فتح حساباً في أحد بنوك إسطنبول، بهدف جمع التبرعات من الحكومات والمدنيين المتعاطفين معه. وبعد انقضاء فترة وجيزة قررت الحكومة التركية إغلاق الحساب البنكي، لأن سورية اتهمتها بتمويل عمليات شراء الأسلحة للجيش المنشق. آخر الشهر الماضي، أعلن العميد مصطفى الشيخ رئيس فرع الكيمياء وضابط أمن منطقة شمال سورية، انشقاقه مع نجله الرقيب. وكان من الطبيعي أن يحدث هذا العمل مشكلة مع العقيد رياض الأسعد، بعدما طالب العميد بأهمية توحيد المعارضة العسكرية تحت قيادته. ورفض الأسعد تحقيق رغبته مدعياً أنه هو الذي افتتح حركة الانشقاق داخل الجيش النظامي، وأنه هو الذي وضع القاعدة التنظيمية لقوات المعارضة. ويبدو أن الاستخبارات السورية لعبت دوراً نشطاً في توسيع هوة الخلاف من طريق دس بعض العناصر في صفوف الفريقين. والثابت أن لقاء برهان غليون مع العميد مصطفى الشيخ، ساعد على توسيع أسباب الخلاف، وكأنه بذلك اللقاء أراد منحه وحده شرعية المجلس الوطني. ومثل هذا الانتقاء وسع شقة التباين بحيث ولدت مجموعات مسلحة راحت تسيطر على منافذ العاصمة من جهة دوما والزبداني. وهي تستخدم تكتيكاً عسكرياً جديداً يقضي بتوسيع ساحات المعركة والانتشار في كل المناطق الداخلية والساحلية، بهدف جر الجيش النظامي المؤلف من غالبية سنية، إلى مواجهات متواصلة. والغرض من كل هذا، تشجيع العناصر السنية على الانشقاق والانضمام إلى صفوف المتمردين. مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي، مهتم أكثر من روسيا بإيجاد آلية تسوية تسمح لبشار الأسد بالبقاء في الحكم. لذلك أرسل إلى إسطنبول ثلاثة رجال أعمال اجتمعوا بنائب المراقب العام لجماعة «الإخوان المسلمين»، عارضين عليه التوسط مع دمشق من أجل الحصول على أربع وزارات في حكومة الاتحاد الوطني. واشترطوا ثمن هذه الصفقة إسقاط مطلب تغيير بشار الأسد. وبعد رفضه العرض، أبلغهم أن «الإخوان» هم جزء من جبهة عريضة تضم غالبية ألشعب السوري، وأن هذا القرار يجب أن يخضع لمشورة المجلس الوطني. ويدعي غليون أن الجيش الحر اعتقل عدة عناصر إيرانية كانت تساعد الجيش النظامي على قنص المتمردين. كذلك ساهم عناصر من «حزب الله» في عمليات الدفاع عن النظام في مختلف المناطق. والسبب أن سقوط «سورية الأسد» بعد مرور أربعين سنة على حكم العائلة، سيضعف «حزب الله» و «حماس» وسائر الحلقات السياسية التي نقلت نفوذ الجمهورية الإسلامية من مؤخرة العالم العربي إلى حدود المتوسط. كما أن عملية إغراق سورية في حرب أهلية محتملة، سيضطر إيران إلى التدخل عسكرياً عبر العراق بحيث تنقذ تحالفها من خطر يترتب عليه إلغاء دورها المؤثر سياسياً وأمنياً واقتصادياً. ومع أن روسيا لا تريد بقاء إيران قوية قرب حدودها، إلا أنها تعرف أن تورطها في حرب أهلية سورية قد تشجع «حزب الله» على فتح جبهة ضد إسرائيل. لهذا وافقت إدارة الرئيس أوباما على دعم المبادرة الروسية التي حظيت بدعم بريطانيا وفرنسا وألمانيا. وهي تتوقع موافقة الأسد على أي حل تقترحه موسكو، ولو أدى ذلك إلى نقل سلطاته إلى نائبه فاروق الشرع قبل بدء المفاوضات بإشراف الجامعة العربية. لبنان في هذا السياق، حاول قدر المستطاع إبقاء لهيب النيران السورية بعيدة عن حدوده. علماً بأن اللهيب وصل إلى ثياب جماعة 14 آذار و 8 آذار، وإنما من خلال شاشات التلفزيون وجلسات الترفيه التي يقدمها الوزراء والنواب. وفي مناسبة استثنائية عرض الرئيس اللبناني ميشال سليمان وجهة نظره في أحداث سورية فقال: «إن علاقتي جيدة مع الرئيس بشار الأسد ومع القيادة السورية. ونحن مع الديموقراطية في سورية وغيرها من البلدان. ونحن مع تداول السلطة في سورية وغيرها من البلدان. ونحن نبقى على علاقة جيدة مع الشعب السوري بفئاته كلها، فلا ندعم هذه الفئة لصالح أخرى. ولا نحارب فئة من أجل تحقيق مصلحة أخرى». وكان بهذا العرض السياسي يرضي النظام ويرضي خصومه في الوقت ذاته... ويرى منتقدوه في صفوف 8 آذار أن الرئيس سليمان، أحيا قاعدة التعاطي الرسمي التي رسمها المرحوم الرئيس الحاج حسين العويني، عندما قال: لبنان... هيك وهيك! * كاتب وصحافي لبناني