غيّب الموت فجر أمس في أحد مستشفيات بيروت، السياسي اللبناني نسيب سليم لحود عن 68 سنة بعد صراع مع المرض، فكانت بذلك نهاية المسيرة السياسية لرجل اشتهر في أحلك الظروف التي مرت بها البلاد، بهدوئه وخطابه المعتدل وبرفضه المساومة على ثوابت آمن بها والتزمها، وبدعوته إلى الحوار، وهي دعوة جسدها في بداية مسيرته السياسية حين لعب دوراً مع عدد من السياسيين المسيحيين بعيداً من الأضواء، في التمهيد لنصوص اتفاق الطائف عام 1989، أي قبل عام واحد من تعيينه سفيراً للبنان في واشنطن. ويشيع الراحل في كاتدرائية مار جرجس وسط بيروت غداً السبت، ويترأس القداس رئيس أساقفة بيروت للموارنة المطران بولس مطر، قبل أن ينقل الجثمان إلى بعبدات حيث يوارى في الثرى. وبدأ نسيب لحود نشاطه السياسي عملياً عام 1991، حيث، عملاً باتفاق الطائف الذي قضى بملء الشواغر في البرلمان، عين نائباً خلفاً للراحل فؤاد لحود عن مقعد المتن، فأوقف حينها أعماله الخاصة وأعمال شركته في لبنان، لقناعته بضرورة فصل العمل العام عن المصالح الشخصية. وعام 1992 فاز انتخاباً بالمقعد نفسه في الانتخابات الأولى بعد الحرب الأهلية، وأعيد انتخابه تباعاً في دورتي 1996 و2000. وتولى في العام 2005 تشكيل لائحة المعارضة في تلك الدائرة وخاض معارك سياسية وانتخابية ضد القمع والفساد واستغلال السلطة، ودفاعاً عن الدستور والحريات والنظام الديموقراطي، وخسر في الانتخابات في ذلك العام. وترأس لجنة الدفاع النيابية عامي 1991 و1992 وشغل عضوية لجنتي الشؤون الخارجية والمال والموازنة من 1992 إلى 2005. ومن المواقف التي عرف بها لحود، أنه عارض كل التعديلات التي أجريت على المادة 49 من الدستور (التمديد للرئيس إلياس الهراوي لولاية ثانية وقبول ترشح موظف من الفئة الأولى للعماد اميل لحود والتمديد له لولاية ثانية) لمصلحة أشخاص بعينهم، وكان بذلك النائب الوحيد الذي صوت ضد هذه التعديلات ثلاث مرات متتالية، في الأعوام 1995 و1998 و2004. وفي نيسان (أبريل) 2001، شارك لحود مع سياسيين آخرين وناشطين في الحقل العام وفي المجتمع المدني وأكاديميين ورجال أعمال ونقابيين، في تأسيس «حركة التجدد الديموقراطي»، وهي حركة سياسية تضم أعضاء من كل الطوائف والمناطق، وتهدف إلى «تحصين سيادة لبنان واستقلاله، وترسيخ دوره، والدفاع عن الحريات، وتطوير التجربة الديموقراطية اللبنانية، وبناء اقتصاد حديث، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وبناء مواطنية جامعة يلتقي في قيمها جميع اللبنانيين». وانتخب رئيساً للحركة في تموز (يوليو) 2001 وبقي يشغل المنصب إلى حين وفاته. وساهم عام 2001 أيضاً في تأسيس «لقاء قرنة شهوان» الذي أراد أعضاؤه أن يكون الترجمة السياسية لنداء مجلس المطارنة الموارنة في أيلول (سبتمبر) عام 2000، وشارك في كل أعمال اللقاء ونشاطاته والمحطات السياسية التي تولى فيها إصدار المواقف المتشبثة بالحرية والسيادة والاستقلال، وتصحيح العلاقات اللبنانية-السورية، وإطلاق المبادرات الحوارية مع سائر القوى والأحزاب السياسية اللبنانية. ومنذ عام 2001، كان للحود الدور البارز في جمع صفوف الأحزاب والقوى والشخصيات التي شكّلت لاحقاً «لقاء البريستول» المعارض، سواء من خلال تنظيم المؤتمرات وإصدار المواقف الداعمة للحريات وللنظام الديموقراطي أم من خلال احتضان التحركات الطلابية والشبابية والشعبية، في مواجهة ازدياد نفوذ الأجهزة الأمنية. وبعد تمديد ولاية الرئيس السابق إميل لحود في أيلول 2004، ساهم نسيب لحود في إطلاق «لقاء البريستول» الذي جمع القوى المعارضة كافة من مختلف الاتجاهات الطائفية والفكرية والمناطقية في خريف عام 2004. وكان هو نفسه من أبرز وجوه «انتفاضة الاستقلال» التي اندلعت بعد اغتيال الرئيس السابق للحكومة اللبنانية رفيق الحريري ورفاقه في 14 شباط (فبراير) 2005، والتي من أبرز تجلياتها تظاهرة 14 آذار (مارس) 2005، التي أعطت اسمها لتحالف «قوى 14 آذار» الذي اعتبر لحود من أبرز أركانه حتى عام 2009. وفي 13 أيلول 2007، أعلن نسيب لحود ترشيحه رسمياً لمنصب رئاسة الجمهورية في لقاء حاشد في مركز بيروت للمؤتمرات «بيال» أذاع خلاله بيان الترشيح تحت عنوان «رؤية للجمهورية» يتضمن نظرته إلى سبل تجديد الميثاق الوطني وإحياء المؤسسات الدستورية وتحديث الديموقراطية وتجديد الحياة السياسية في لبنان. وفي تموز (يوليو) 2008 عين وزيراً للدولة في حكومة الوحدة الوطنية التي شكلت بعد اتفاق الدوحة برئاسة فؤاد السنيورة، والتي وضع مشاركته فيها تحت عنوان عودة جميع اللبنانيين إلى كنف الدولة. ولحود من مواليد بلدة بعبدات في قضاء المتن عام 1944، متزوج من عبلة فستق ولهما ولدان، سليم وجمانة. درس الهندسة الكهربائية في بريطانيا، وأسس عام 1972 «شركة لحود للهندسة» التي تعنى بالتجهيز الصناعي والمنشآت الصناعية، والتي نفذت عدداً من محطات توليد الطاقة ومصانع تحلية مياه البحر ومصانع الإسمنت والمنشآت البترولية، في أنحاء عدة من منطقة الشرق الأوسط، ومنها دبي وأبو ظبي وقطر والبحرين، فضلاً عن مساهمتها في تنفيذ أجزاء من معملي الجية والذوق الحراريين في لبنان. مواقف حازمة ضد الفساد عرف نسيب لحود باستقامته ونزاهته وبمواقفه الحازمة ضد الفساد والمحسوبيات. وفي ما يلي أجزاء من تصريحات له في سنوات مختلفة. عام 1993: «دولة القانون تعني ألا يعاقب الفقير ويعفى عن الغني، وألا يعاقب الضعيف ويساير المحمي، وألا يعاقب الأعزل ويهادن المسلح». عام 1995: «مشاريع تعديل الدستور تزيد الأخطار على الوضع المالي وتؤثّر سلباً على الاستقرار الاقتصادي». عام 1996: «السيادة تكتمل ببسط سلطة الدولة على كامل التراب الوطني، وبقواها الذاتية حتى نصل إلى يوم لا يبقى فيه على أرض لبنان إلا جنود لبنانيون وقوى أمن لبنانية، وذلك من خلال إقرار خطة أمنية مركزية تربط بين بناء القوى اللبنانية الذاتية وتوسيع مهماتها وتطبيق مفاعيل هذه الخطة على كامل الأراضي اللبنانية». عام 2001 (بعد أحداث 7 و9 آب/ أغسطس، الاعتداء على متظاهرين ضد الوجود السوري في لبنان): «واقع الحريات العامة في هذا البلد ليس على ما يرام منذ انتهاء الحرب، خضنا معاً في العقد الماضي معارك عدة دفاعاً عن هذه الحريات والديموقراطية في لبنان. إلا أن مسلسل أحداث الأسبوع الماضي دل بما لا يرقى إليه الشك أن هناك مشروعاً أمنياً قرر التصدي للدستور وللمجتمع المدني. فإذا بالهاجس المقلق الذي ساورنا منذ فترة يتحول فجأة إلى كابوس واقعي أذهل اللبنانيين بمشاهده القمعية المستهجنة: رجال أمن بلباس مدني ينهالون ضرباً وركلاً على محامين وطلاب عزل وذلك تحت أعين رجال أمن آخرين في لباس رسمي أعجز من أن يقوموا بواجب الدفاع عن المواطنين الآمنين. لا أيها الأصدقاء، ليس هذا لبنان الذي يحلم به اللبنانيون. ليس هذا ما يضحون من أجله». عام 2003: «نعرب عن قلقنا من قرار النيابة العامة ملاحقة العماد ميشال عون بعد خطابه أمام الكونغرس، ونحذر من زج القضاء في مغامرة سياسية جديدة، ونؤكد أن الاختلاف مع العماد عون يجب أن يبقى في الإطار السياسي فقط... والاحتكام في هذه القضية، كما في أي شأن سياسي آخر، يجب أن يبقى للرأي العام وحده وليس لأي جهة أخرى». عام 2004، هاجم لحود بعنف ما وصفه القرار السوري بالتمديد لإميل لحود، وقال: «القرار السوري بإلغاء الانتخابات الرئاسية وفرض التمديد على اللبنانيين يشكل خطيئة كبرى، أولاً لانتهاكه الدستور والديموقراطية ومبدأ تداول السلطة، وثانياً لتوجيهه ضربة لسيادة لبنان وكرامة اللبنانيين، وثالثاً لإمعانه في إبقاء العلاقات اللبنانية- السورية ضمن منطق التبعية الذي نرفضه رفضاً تاماً عوضاً عن منطق الشراكة الاستراتيجية التي نريدها ونعمل من أجلها. من المؤسف أن تكون الغلبة هي للحسابات الخاطئة المستندة إلى نظرة ضيقة لا بل وهمية للمصالح الاستراتيجية لسورية، على حساب الفرصة الكبيرة التي لاحت مؤخراً بإرساء علاقة من الثقة العميقة بين سورية ولبنان بإجماع كل اللبنانيين». خلال جلسة تعديل الدستور للتمديد للرئيس لحود: «منذ تسعة أعوام، وقفنا 11 نائباً وصوتنا ضد تعديل المادة 49 من الدستور لمصلحة شخص بالذات (الياس الهراوي). بقي منا اليوم في المجلس النيابي اثنان. يلتئم مجلس النواب اليوم للمرة الثالثة في أقل من عشرة سنوات من أجل تعديل الدستور، لا بل من أجل تعديل المادة 49 نفسها من الدستور، وللمرة الثالثة، لمرة واحدة واستثنائية! ثلاث مرات استثنائية أيها الزملاء، ولا مرة واحدة عادية أو طبيعية خلال 15 سنة من السلم الأهلي أي منذ 1989. في حين أن 15 سنة من الحروب منذ 1976 شهدت خمسة انتخابات رئاسية من دون مساس بالدستور». خلال جلسة مناقشة البيان الوزاري لحكومة الرئيس عمر كرامي، طالب لحود بأن «ننتقل من إدارة سورية للبنان إلى إدارة لبنانية للبنان، إدارة لبنانية تعكس الإرادة اللبنانية وحدها وليس أي إرادة أخرى خارج الحدود. نريد أن يجري هذا الانتقال بالتفاهم مع سورية، وليس ضدها، وبما يكفل مصالحها الاستراتيجية المشروعة، وبما يؤسس لعلاقات محترمة بين بلدين شقيقين سيدين فعلاً ومستقلين ويمهد لشراكة استراتيجية فوق الشبهات، أي تحت القانون الدولي، وأقوى من التبدلات الجيوستراتيجية». ودعا إلى «إعادة الاعتبار إلى اتفاق الطائف، بكل مندرجاته، بروحه الواضحة التي لا تقبل التأويل». ورأى أن «انتفاضة الاستقلال في 14 آذار 2005 استكمالاً ل25 أيار (مايو) 2000 (الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان) وليس نقيضاً له، وذلك عبر تأكيد حق لبنان، بعد تحرير أرضه، في أن يدير شؤونه الوطنية الخاصة وأن يعيد بناء دولته القادرة ونظامه الديموقراطي ومؤسساته الدستورية».