تقدم الباحثة وفاء صندي في كتاب «غياب الرؤية الحضارية في الحراك الثوري العربي» (منتدى المعارف - بيروت) شهادات لخمسة وأربعين باحثاً من العالم العربي، ومن مختلف الاتجاهات والتيارات السياسية والفكرية، سعوا كل من موقعه، الى تشريح - وتقويم - المسار الذي شهدته بعض البلدان العربية خلال السنوات الثلاث الماضية، وتقديم خلاصات نقدية حول الحراك ومستقبله والصعوبات الذاتية والموضوعية التي تحكم مساره. تعطي الفصول بعناوينها والمواضيع الفرعية التي تناولتها، فكرة واضحة عن مروحة القضايا التي تطرق اليها الباحثون. يتناول الفصل الأول «الوضعية العامة لحالة المنطقة العربية»، عبر رؤية داخلية لما حدث من تغيرات عربية وما تبعها من انعكاسات، ومن خلال التساؤل عن حدود جينات الأمل الثوري في رحم الشعوب العربية، وموقع الإعلام في التحركات من زواياها الإيجابية والسلبية، وصولاً الى مناقشة مسألة «تغييب الإيديولوجي في الفكر العربي». اما الفصل الثاني، فيركز على «الغليان العربي في المختبر الثوري»، حيث يتناول الانتفاضات التي شهدتها بلدان مصر، تونس، ليبيا، اليمن، وسورية. يتطرق الفصل الثالث الى «بوصلة التحولات الاستباقية»، و يتناول ما جرى في المغرب لجهة امتصاص الحراك الشعبي، وموقف بلدان أخرى من الحراك من قبيل العراق والأردن. يركز الفصل الرابع على «انفلات الحراك عن المسار الثوري»، وهو ما تجلى في العنف الذي رافق هذا الحراك، من حيث تداعي السياجات الأمنية، وتهميش المرأة والأقليات، وترسيخ الفكر المتآمر، والإسلام السياسي في ميزان الترهيب والتخويف، ثم المشروع النهضوي وأطراف الصراع. اما الفصل الخامس والأخير فهو الذي اعطته الكاتبة عنواناً لكتابها، وفيه خلاصات وتقويمات للحراك في راهنه ومستقبله. في العودة الى العوامل التي تسببت بالانتفاضات، فإن معظم الباحثين تقاطعت رؤيتهم حول جملة عوامل تلخصها المعضلات الاجتماعية والسياسية، من فقر وبطالة واستبداد واضطهاد وحكم الفرد الواحد والاستئثار بالسلطة. يضاف إليها تكوّن أجيال جديدة اكتسبت مهارة استخدام التكنولوجيا الحديثة خصوصاً منها وسائل الاتصال التي ألغت عملياً الرقابة الأمنية على وسائل الإعلام وعلى حرية التعبير. ساعدت هذه الوسائل على وصول الشعارات الى مختلف أرجاء كل بلد، وأمكن خلالها توسيع قوة الحشد الجماهيري في شكل غير مألوف عن مراحل سابقة من الحراك الشعبي. لعل كسر جدار الخوف ونزول الجماهير الى الشارع والمطالبة بالتغيير وإسقاط الأنظمة شكل العنصر الإيجابي الأساسي في الحراك الشعبي الذي عرفه العالم العربي، ونجح في بعض البلدان في تحقيق انجازات جزئية من ابرزها اسقاط رأس النظام. على رغم تفاوت التقدير لما جرى ولاحتمالاته بين باحث وآخر، الا ان النتائج التي تقف عندها الانتفاضات اليوم، دفعت بكثيرين لقراءة نقدية، بعيدة من التضخيم ومن العدمية في الآن نفسه. لعل ابرز الانتقادات تتركز على ان التيارات الإسلامية استطاعت ان تجيّر الانتفاضات لمصلحة مشروعها السياسي في السيطرة على الحكم. يأتي ذلك نتيجة عوامل متعددة تتصل بهذه التيارات أصلاً، وبمشاريع قوى الشباب وتطلعاتها السياسية ومعها سائر القوى السياسية المعارضة تقليدياً للأنظمة الحاكمة. فالتيارات الإسلامية لم تسقط قوتها على المجتمع من «سماء صافية»، فقد كانت متجذرة في المجتمعات العربية، وتملك قدرات تنظيمية ومالية مكنتها من ان تدير الحراك الشعبي من موقعها المنخرط وسط الطبقات الشعبية. في المقابل، لم تكن الفئات التي تصدرت الحراك تملك برنامجاً سياسياً، تحمله حاضنة اجتماعية، ما جعلها في حال الارتباك بمجرد انفضاض الحشد الشعبي عند الانتقال الى العملية الدستورية. لا يكفي اطلاق الشعار الصحيح، فشرط نجاحه هو اقترانه بقوى على الأرض، وبحاضنة اجتماعية وسياسية يمكنها ان تفرضه في سياق الصراعات الدائرة على السلطة. لذا ظلت قوى الحراك الشبابي تدور في الإطار الفوقي، بل باتت نهباً لهذا التيار او ذاك بالنظر الى غياب الرؤية السياسية لمستقبل الحراك الذي أطلقوه. هكذا حصدت القوى الإسلامية نتائج حراك لم تكن هي الأصل في إطلاقه، ما خلق شعوراً ب «تحول الربيع الى خريف اجتماعي واقتصادي وسياسي وعلى الصعد كافة في البلاد التي طالها التغيير، وسقطت انظمتها القديمة وتم تبديلها بأنظمة جديدة ذات توجه ديني». من المسائل التي توقف امامها بعض الباحثين نظرية المؤامرة التي تتحكم بالعقل العربي فتمنعه من القراءة العقلانية والموضوعية للحدث. في الانتفاضات العربية، ومن خلال الشهادات الواردة في الكتاب، نقرأ تفسيراً للحراك العربي في كونه مؤامرة اميركية استعمارية، تهدف الى تفكيك المجتمعات العربية وإثارة النزاعات المذهبية والطائفية داخلها، من اجل الهيمنة عليها ونهب ثرواتها. ويذهب آخرون الى اعتبار الانتفاضات في بعض البلدان إنما تهدف الى ضرب معسكر الممانعة، خصوصاً في الحديث عن الانتفاضة السورية وتدخل قوى مارست القتال ضد اسرائيل، فانحازت الى النظام السوري. يصدر الموقفان عن تغييب عناصر الانفجار العربي والعناصر الداخلية التي راكمها الاحتقان فخلقت هذه الحالة «الثورية». لعل المأساة المتولدة عن هذه النظرة تكمن في انحياز اقسام غير قليلة من المثقفين إلى جانب الأنظمة ضد الانتفاضات، على رغم أن اوساطاً واسعة من هؤلاء المثقفين قد عانوا من اضطهاد وظلم هذه الأنظمة. يشدد عدد من الباحثين على استنكار هذه المواقف، حيث أن وقوعها في قبضة تيارات دينية لا يبرر الانتقال الى ضفة النظام. تحضر عوامل التدخل الخارجي في مسار الانتفاضات والتأثير في مجراها. اذا كانت الغالبية تركز على العناصر الداخلية في الانفجارات بصفتها العنصر المقرر، الا ان ما يشبه الإجماع يرصد تعامل الخارج الغربي مع هذه الانتفاضات. ليس هناك من حدث في اي بلد يبقى في معزل عن التأثير الدولي، فمصالح كل دولة ستكون عاملاً للتدخل في الانتفاضات، وهو ما كان واضحاً من خلال المواقف السياسية والعملية في الانتفاضات، وصولاً الى التدخل العسكري في بعضها. وقد وصل الأمر بالولايات المتحدة الأميركية إلى أن أعلنت انحيازاً كاملاً لمصلحة الإخوان المسلمين وضغطت لمنع إسقاط حكمهم. كما كان التدخل في الانتفاضة الليبية واضحاً وحاسماً في إنهاء حكم القذافي. لعل هذا الجانب يعكس مأزق التغيير في المنطقة العربية، حيث تضطر قوى التغيير الى الاستعانة بالخارج لقلب انظمة الحكم، بعد ان اباد الاستبداد قوى التغيير والمعارضة في معظم الأقطار العربية. على رغم التحفظات والقراءات المختلفة من الباحثين، الا ان هناك ما يشبه الإجماع على ان الانتفاضات العربية فتحت مساراً جديداً في المنطقة العربية لجهة عودة الشعوب الى السياسة. ولا يقلل المسار الفوضوي الكياني الذي دخلته المجتمعات العربية، والحروب الأهلية الطائفية والمذهبية، من حلم التغيير وإسقاط الأنظمة، وولادة قوى تغيير جديدة على حطام الانهيار البنيوي الجاري.