يتمتع كتاب الفيلسوف ألبرتو توسكانو «التعصّب» بفضيلتين: معرفة نظرية - تاريخية واسعة، تتقصّى وجوه موضوعها في أزمنة ومجتمعات مختلفة، والتعامل مع ظاهرة راهنة - قديمة، تحتمل صفات كثيرة ليس آخرها: الإرهاب. تشتق الفضيلة الأولى من قاعدة عايشت التاريخ الإنساني في حقبه المتتالية تقول: لا حروب بلا تعصّب ولا تعصّب بلا حروب، لأنّ في التعصّب كراهية فاعلة، تقضي باجتثاث المكروه الذي فقد الصواب. أما الفضيلة الثانية فتحيل على ظواهر لا تغفو ولا تنام، منذ أن اعتبر جنود كولومبوس «الهنود الحمر» مخلوقات لا أرواح لها، إلى زمن جماعات رأت في أبي الهول صنماً يلوّث الهواء. وفي حديث الصنم والجماعات الوليدة ما يثير الفضول، ذلك أن أبا الهول قائم في مكانه منذ آلاف السنين. من هو المتعصّب الذي لا يستوي وجوده إلا بإزالة غيره؟ هو الإنسان الذي يحمل فكراً لا تغيير فيه، مساوياً بين فكره والحقيقة الخيّرة الكاملة، وهو الذي يدور حول موضوع مستقر، معتبراً أن ما خارجه رذيلة فادحة. يطمئن المتعصّب النموذجي إلى الثبات، مقرراً أن التحوّل مع الأزمنة المتحوّلة فساد لا شبهة فيه، وإلى أحادية الموضوع قائلاً بمراتب عارضة وبمرتبة أولى جوهرية مكتفية بذاتها. ولهذا يبدو جديد الأزمنة صدمة، يعالجها المتعصّب بلعن الجديد وتكفيره، بمقدار ما يبدو المتعصّب إنساناً غاضباً تتملكه أزمة خانقة يواجهها بذاتية تدور حول نفسها تدّعي العصمة. لا وجود، في الحالين، لمبدأ السبب، فالاعتراف بالسبب يضع المتعصّب خارج فكره وموضوعه وينقله، تالياً، من ملكوت الأحادية إلى أرض المتعدد. في حال المتعصّب ما يشبه حال العاطل من العمل في مطلع الأزمنة الحديثة، الذي كان «يهلك» الآلات، من دون أن يرى أصحابها وسياستهم الاقتصادية. بيد أن ما سبق لا يبدو مقنعاً إلا بصورة «آخر»، يصطنعها المتعصب وينزل بها عقابه. فكما أن العاطل عن العمل «يهلك الآلة»، من حيث هي «آخر» يتضمن كل الشرور، فإنه في المجالات الخارجة عن العمل يخترع «الآخر الملائم» في شكل يسوّغ اجتثاثه، سواء كان عملاً فنياً تصافحه الرياح منذ آلاف السنين، أو فناناً يعترف بتعددية الألوان والمواضيع. يأخذ «الفنان المختلف»، عندها، صورة الإنسان المتعصب، ولكن بشكل مقلوب، فهو صاحب فكر أحادي شرير، وهو المتمسّك بموضوع وحيد واجب إتلافه. يُسقط المتعصّب ذاته على آخر مغاير له، ويعطيه ما يشاء من صفات السلب، بدءاً بالكافر الذي لا شفاء له، وصولاً إلى الإرهابي الذي سقط من لا مكان. يرتاح المتعصّب إلى التجريد، فلا يرى تفاصيل «الآخر» ولا يميّزه من غيره، ذلك أن الاعتراف بالتميّز والخصوصية يمنع الحرب ويربك أبلسة الآخر. لهذا ارتاح التعصّب، في شكله الغربي، إلى توصيفات «علمية» العناوين فتحدث عن «الاستبداد الشرقي، العقلية المسلمة»، وعن «التعصّب المحمّدي»، الذي كتب عنه الفرنسي فولتير أكثر من مرة، وصولاً إلى الفيلسوف الانكليزي هيوم، الذي فصل بين الأمم المتحضرة والشعوب البربرية. يتمدّد التعصّب، في مجال التجريد، متوسلاً كلمات تحجب المعنى، إذ استبداد الشرق من الشرق، وعنف المسلمين من عنف الدين، و «إرهاب طالبان» من شرق يحرض على الإرهاب. تنحل التفاصيل كلها في «جوهر غربي» يعرف التسامح، وهو كلام يثير القهقهة، وفي «جوهر شرقي» تمنعه طبيعته عن الائتلاف مع الإبداع وحقوق الإنسان، وهو كلام يتاخم الفضيحة. لا غرابة أن يشجب إدوارد سعيد تصور «الجواهر المغلقة»، وأن يبتعد ما استطاع عن مفهوم «الهوية»، الذي لا يفرّق، أحياناً، بين الثقافات والأحجار. ومع أن التعصّب يدعو إلى الحروب ويستقدمها، فإن في تنوّع الحروب ما يبعث على تساؤل مفتوح وينهي عن التعصّب، فللتعصّب، كما للحروب، أسبابها المتنوعة. فقد رأى البعض في رجل الدين الثائر توماس مونتسر، في الربع الأول من القرن السادس عشر، عصابياً متعصباً يدعو إلى القتل والدمار عقابه الحرق بالنار. ورأى بعض في رجل الدين، الذي قاد ثورة فلاحية، مصلحاً فاضلاً، رفض الحاضر وبشر بواقع مستولد لا تنقصه الفضيلة. شيء قريب من تلك الإيمانية المطلقة، التي ميّزت المسيحيين الأوائل الذين واجهوا العنف الروماني بصدور عادية. ربما يكون في مثال توماس مونتسر ما يفصل بين إيمانية أفقها «المدينة الفاضلة» ويقين سلطوي مدمّر، أعطاه الألماني هتلر ملامحه الكاملة. ولعل الفصل بين الإيمانية الثورية والتعصّب السلطوي القاتل هو الذي يستدعي روبسبيير والثورة الفرنسية، حيث الثائر الكامل يبدو عصيّاً على الفساد، وحيث الرجل الذي لا يمكن إفساده من دعاة «الرعب الثوري»، الذي يبني مجتمعاً عادلاً جديداً على أنقاض ملكية ظالمة. ما يربك الفكر، ولا يطمئن إلى الإجابات النهائية، كامن في تلك العلاقة المعقدة بين مواجهة الظلم و «صناعة العدالة»، ذلك أن المجال الظالم لم يكن ممكناً إلا بتاريخ من الرعب طويل. لم يكن تاريخ الشيوعية، التي وسمت القرن العشرين كله وسقطت بلا مهابة، مختلفاً كلياً عن أحلام وأوهام روبسبيير، الذي استعصى على الفساد وانتهى إلى المقصلة. فلقد كان لدى الشيوعيين، وهم ينقلّون تعصّبهم من مكان إلى آخر، تصورات جمعت بين العلم وأثير الأحلام، معتقدين أنهم ينقلوا البشرية، جمعاء، من زمن ما قبل التاريخ إلى تاريخ إنساني حقيقي مملوء بالنعمة. ومع أن الليبرالية الجديدة، التي صعدت على أطلال الشيوعية، استهلكت حبراً كثيراً وهي تدافع عن «الديموقراطية والقرية الكونية»، فإن ما جاءت به لم يكن متحرراً من التعصّب، فرأت في الشيوعية شراً مستطيراً دفنه الخير، إلى غير رجعة، وأوكلت إلى «يقينها الديموقراطي» بناء «المدن الفاضلة» من طريق الطائرات والصواريخ وقصف الأبرياء الذين لا سلاح معهم. ولن يبدو الحديث نافلاً إن مايز بين العلمانية، في معناها العقلاني، والعلمانية الأصولية، التي قد تستعيد إرهاب روبسبيير، من دون أن تعرف فضائله. ليست العلمانية الأصولية، أو الأصولية العلمانية، إلا راسباً متعصباً من «العقل التنويري»، كما يشير كتاب توسكانو. فقد انطلق الإنسان التنويري من جملة ديكارت: «أنا أفكر، إذاً، أنا موجود»، حيث للعقل مملكته الواسعة التي تحوّل الطبيعة وتبدّل الإنسان الذي يبدّلها، فارضة مفهوم السبب والسببية وعابثة بالأحكام النهائية المنجزة. بيد أن هذا العقل، الذي له أشكاله غير العقلانية أيضاً، انزاح عن عقلانيته أكثر من مرة: أنتج عقلاً متعصباً حين رأى في الهنود الحمر مخلوقات لا أرواح لها (لم يعترف دينياً بأرواح لها إلا عام 1637)، وأنتج عقلاً عنصرياً حين ساق الأفارقة إلى عمل مهلك في بلدان لا يعرفون عنها شيئاً، وأنتج عقلاً قاتلاً حين أحرق اليهود وأرسلهم ليحرقوا الفلسطينيين ... وقطع هذا التعصب شوطاً طويلاً حين بارك السلع والأسواق ووضع القيم المادية الاستهلاكية فوق القيم المعنوية والروحية، وهو ما نقدته «مدرسة فرانكفورت» نقداً واسعاً، لا يعوزه التشاؤم، وهو الذي وضع على لسان فالتر بنيامين تعبير: الكارثة. ثار فالتر بنيامين على زمن تاريخي خطي، متدرّج، يؤجل تحرير الإنسان إلى ما لا نهاية، قائلاً بانبثاق زمني مفاجئ عنوانه: الخلاص. وإذا كان بنيامين قد اشتق الخلاص المنشود من مفهوم واسع للتحرر الإنساني، فإن اتجاهات متعصّبة ساوت بين الخلاص والعودة إلى زمن طهراني قديم. ولهذه الاتجاهات قضاياها الخاصة بها، فهي ترفض الحاضر لأنها لا تعرفه، وتحقد على الحداثة لأنها لا تتمتع بخيراتها، وتكره الجديد بعد أن أعطت القديم قداسة. لذا تدعو «وهي غافية» إلى استعادة شاملة لقديم تعيشه، وماثل بين يديها، معتبرة أن ما ينصر الحديث «جاهلية قديمة»، وأن الحديث الحقيقي ولد منذ زمن طويل. والواضح، رغم بلاغة تستقوي بالجهل، عدم الاعتراف بالتاريخ، وعدم الاعتراف بأن التاريخ أنتج الجاهلية وأنه لن ينتجها من جديد، لأن بين السيف والصواريخ مسافة مرعبة، وبين الجاهلية القديمة والجاهلية الجديدة فارق بنته الأوهام والجهل. ولكن ماذا يعني عدم الاعتراف بالتاريخ؟ إنه وهم التأسيس على بدء نقي، يختلف عما سبقه وعما يتلوه اختلافاً كاملاً. وعلى رغم وهم التأسيس، أو التأسيس الوهمي، فإن الفكر المتعصّب يرى في خصومه شراً منتهياً إلى دمار يرضي المتعصبين لا أكثر. لا غرابة أن يرفض التعصّب التوسّطات، مهما كان شكلها، طالما أنه يقول بالبدء الصالح المكتفي بذاته، الذي لا يحتاج إلى واسطة. هنا ولهذا السبب يبدو الحديث عن التنوع زندقة، ويغدو الاختلاف شركاً، وتصبح الأحزاب السياسية بدعة، فهي متنوعة وللتنوع آثامه، وهي ذات نظر متعدد، لا يقبل البدء الشامل ولا يقبل البدء الشامل به. يبدأ الأمر وينتهي، في التحديد الأخير، بتكفير المتعدد، الذي هو مبدأ السياسة ومطلعها الأول، فالسياسة اختلاف، والاختلاف تعدد، والاختلاف المتعدد مصدر الإبداع والابتكار والفضول المعرفي، بعيداً عن ذلك «الواحد المستبد»، الذي يرى إلى جماعات متساوية الفهم والقامات، فإن ظهر منها مخالف عالجه أكثر من عقاب. ما وجوه التعصّب التي أدمن عليها البشر؟ هناك أنصار الرب، كما جاء في العصور الوسطى، الذين يحرقون باغين، وهناك العقلية الإطلاقية التي تحاذر النسبية والمنتسبين إليها، والهوس الجماعي المتطهر الذي يقسم البشر إلى فريقين لا يتلقيان، والسلطوية السياسية المستبدة التي تعالج آهات البشر بالمدفعية الثقيلة، وتلك «النخبة المتعالية»، التي ترى في اللامساواة المتناتجة بداية بديهية لأشكال المساواة المقترحة، .... وهناك أيضاً تلك «المحاكاة» المريضة، التي تضع بشراً من قش مكان آخرين، من الماضي، قوامهم العقل والفضيلة والأخلاق. هل يأتي التعصّب من التربية أو الدين أو ثقافة الفقر، وما الأسباب التي تجعل من التعصّب «ديناً» ومن «الدين» تعصّباً؟ وما الذي يقيم علاقة بين التعصّب ودعاة «الخلاص الأخير»؟ تحدّث هيغل، في كتابه «فلسفة التاريخ»، وهو يشير إلى إفريقيا، عن «الأرواح اللامتطورة والأرواح اللاتاريخية»، من دون أن يأتي بجواب صحيح، لأن تطور العقل لم يمنع دائماً القتل بل قاد، أحياناً، إلى إتقانه. ولهذا تقوم الإجابة، لدى أنصار التحرر، في مفهوم: المساواة، وقد يتطرّف بعضهم فيقول: يحارب التعنت بالسياسة، التي تنقض المجتمعات الأبوية مثلما تنقض كل هرمية اجتماعية متعصّبة، وتعين المتعدد مبتدأ للوجود. في كتاب توسكانو «التعصّب» ما يقدّم إجابات على أسئلة كثيرة، وفيه قوة موحية تستولد أسئلة غافية، وتقترح إجابة مجزوءة، مؤكداً أن رفض التعصّب لا يحتفي كثيراً بمفهوم الحقيقة.