بين أطباق ال «مش» (نوع من الجبنة المحلية) وصحون «الكبدة الاسكندراني» المعززة بأكواب الشاي «في الخمسينة»، من جهة، وزجاجات المياه المعدنية المصحوبة ب «كرواسون» بال «هوت دوغ» أو أصابع الشوكولا المحشوّة بكريمة البندق، من جهة ثانية، هوّة واسعة وفجوة غائرة ظهرت في شكل واضح في قلب ميدان التحرير أمس. مرة أخرى تتصدر النساء مشهد الصدارة في الميدان في ما يمكن أن يُطلق عليه إما الاحتفال بالثورة والبرلمان المنتخب، أو «أربعاء استعادة الثورة» أو ربما إعادة إشعالها. لكن بين نساء كانون الثاني (يناير) 2011 وكانون الثاني 2012 فروقاً شاسعة، ليس فقط في هدف النزول إلى الميدان، وطريقة التعبير عن الرأي، ولكن أيضاً في «إسكات نداء البطون». انقسام ميدان التحرير بين تيارات دينية تتغنى بأهازيج وتدق دفوف الاحتفال بمرور عام على الثورة التي أتت إليهم من حيث لم يحتسبوا لاعتلاء سدة الحكم من جهة وتيارات ليبرالية تتراوح بين الثورية والاشتراكية وربما «الأناركية» (الفوضوية) بدا واضحاً كل الوضوح في بزوغ نجم «الجنس الناعم» في الميدان. فمنذ ساعات الصباح الأولى احتلت شوارع الميدان وطرقاته وأرصفته نساء وفتيات وأطفال من العائلات التابعة والمؤيدة للتيارات السياسية الدينية التي سيطرت على البرلمان في مشهد طغت عليه المظاهر الاحتفالية في شكل واضح. ولأن الجنس الناعم، بالمظهر والإكسسوارات، يفرض نفسه فرضاً على أي ناظر، فقد تتاخمت نساء جماعة الإخوان المسلمين وذراعها السياسية حزب الحرية والعدالة على احتلال المربعات والدوائر المواجهة لمبنى المجمّع وافترشن الأرض مصطحبات معهن كل لوازم الاحتفال. وعلى رغم تباين ألوان الخمار بين البنّي والبيج والأزرق، فقد اتحدت نساء الإخوان وبناتهن المرتديات الخمار والإسدال في المظهر ومشاعر الفرحة العارمة بهذا اليوم التاريخي. وتحوّل الاحتفال وقت الظهر إلى ولائم تزاحمت فيها أطباق الجبن الفلاحي «المش» جنباً إلى جنب مع ساندويتشات الكبدة والبيض المسلوق ولم تخل من أطباق الحلو من أرزّ باللبن و «كسكسي» بالسكر واللبن. ورفرت أعلام جماعة الإخوان الخضراء فوق رؤوس المحتفلين والمحتفلات. وعلى مرمى حجر، أو بالأحرى على مرمى بركة ماء ضمن عشرات البرك التي ملأت أرض الميدان بعد ليلة أول من أمس الممطرة، بزغ كرنفال احتفالي آخر، ولكن هذه المرة طغى عليه لون الوقار والاحتشام. فقد تجاورت نساء وأطفال التيارات السلفية المبتهجة هي الأخرى بالنصر المبين في البرلمان الجديد. وتشابهت الجبهتان النسائيتان في طغيان مظاهر الفرحة والاحتفال، وتم تداول حبات اليوسفي وعبوات «الحلاوة الطحينية» بين الجبهتين السعيدتين ببدء تأسيس «دولة الخلافة» في الأمة المصرية. لكن الأمة المصرية ستبقى متعددة التيارات والاتجاهات! ففي الوقت الذي مالت فيه نساء التيارات المحتفلة إلى افتراش الأرض حيناً والتجول بين أرجاء الساحة المواجهة للمجمع بغرض التبضع حيث احتشد عشرات الباعة الجائلين، ظهرت نوعية مختلفة من النساء، ألا وهن نساء التيارات السياسية التي نزلت الميدان بغرض إحياء الثورة من خلال المطالبة بإسقاط المجلس العسكري. وبدا الاختلاف واضحاً هنا أيضاً. فقد ظهرت سيدات وشابات غير محجبات وحتى المحجبات منهن كن يرتدين ملابس عصرية حديثة. واختفت في هذه الجبهة النسائية تماماً المظاهر الاحتفالية. كما ندر ظهور العائلات بأكملها. واكتفى هذا الجانب النسوي بزجاجات المياه المعدنية وربما القليل من المعجنات والحلوى المغلفة. واختفت تماماً الأعلام الخضراء (الإسلامية) التي ترفرف على رؤوس نساء التيارات الدينية، ولم تظهر في أيدي تلك النساء سوى أعلام مصر بألوانها الأحمر والأبيض والأسود، كما ظهر علم آخر لكن أُفرد على جانبه الأيمن شريط أسود قالت حاملته إنه يمثّل تأبيناً ل «شهداء ثورة 2011 حتى لا ننساهم في ثورة 2012». وبينما كانت نساء التيارات الليبرالية تطوف الميدان للتذكرة بالشهداء، كانت الزغاريد تنطلق من على منصة الإخوان احتفالاً بعقد قران «أحمد» و «حفصة» من شباب الجماعة، وذلك على أنغام «الله أكبر ولله الحمد» لا تقطعها سوى أصوات متقطعة مبحوحة من فرط الصراخ «يسقط يسقط حكم العسكر».