عادت الاصبع المغيّبة الى الحضور في الحياة السياسية العربية وفي وسائل الاعلام، مرفوعة بتباهٍ بلونها البنفسجي، لا تسندها اصبع أخرى علامةً للنصر من تلك التي هيمنت على المشهد العربي المعاصر طويلاً ولم تحمل معها نبوءة المشاركة الشعبية. الكل كان فخوراً به ذلك الإصبع، في العراق وتونس ومصر. ناخبون، شباباً وشيباً، رجالاً ملتحين او علمانيين، ونساء، محجبات، منقبات، يرتدين العباءة، او من هن من دون حجاب، جميعهم شعروا بطعم جديد للكرامة وهم يتأملون إصبعاً خرج من حكم العبودية وبصموا به على اختيار حرّ حلموا به طويلاً. عندما ظهر راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة التونسي في الانتخابات الاخيرة وهو يرفع اصبعاً لوّنها الحبر البنفسجي، كان ذلك بلغة الاشارات تعهداً اخلاقياً ودستورياً بتطبيق النهج الديموقراطي واعتماد التغيير السلمي أسلوباً في ادارة البلاد. بقعة الحبر ليست زينة على اصبع قائد تيار اسلامي نفي لسنوات طويلة فترة نظام بن علي، وعاد بعد سقوطه لينعش الحزب المحظور ويخوض انتخابات جديدة من نوعها قلبت المشهد السياسي في تونس. قبلها بسنوات، شاهدنا كيف توافد العراقيون في العراق والمهاجر واصطفوا في طوابير طويلة تحت لسعة البرد وبطء الحركة، ليختاروا ممثليهم الى البرلمان والحكم. من كان قريباً من العراقيين لحظتها سمع نبرة الثقة في حناجرهم وهم يتجادلون في ما بينهم كل يدافع عن مرشحه. لم يقفوا امام صناديق مضمونة نتائج التصويت فيها مسبقاً، لم يساقوا الى صناديق الاقتراع تحت سوط الامن ولم يكن المرشح واحداً أحد مفروضاً عليهم. في سورية، التي حكمها توأم البعث العراقي، كانت الاشاعات تسوق الناس، خوفاً، الى مراكز الاستفتاء على رئيس الجمهورية، وهو منصب لم تتواضع نتائجه المزيفة عن التسعات الثلاث الا لتنزاح قليلاً بخجل فقط لثبت زوراً ان هناك من ادلى بورقة مكتوب عليها كلمة «لا». بعض الاشاعات كان من فعل اجهزة الأمن وبعضها من فعل خيال شعب حُكم بالترهيب، فبات يسبق الاجهزة الى هناك ليحمي نفسه من أي عسف، خوفاً من عقوبات ستطاول من لا تحمل بطاقته المدنية دمغة الاستفتاء، فلا يكون بعدها تجديد لجواز سفر ولا تسيير لمعاملة زواج او وثيقة ولادة او رخصة محل. أما العسكري فكان عليه ان يجرح اصبعه ويصوّت على الاستفتاء بالدم، وهي عملية مقصودة لتذكر الجندي ان دمه فداء للرئيس لا فداء للوطن. لم تكن الاصبع الملونة بحبر الديموقراطية دوماً هي المهيمن في الشهور الاخيرة. ففي الانتفاضة السورية برزت اصابع فنان شهير حاول شبيحة ورجال الأمن كسرها، واقصد هنا أصابع الفنان علي فرزات التي استهدفت عقاباً على فضحه الطغيان في رسوماته الكاريكاتيرية ودعمه مطالب المتظاهرين السوريين بالحرية. هؤلاء القتلة لا يعرفون ان الروح لا تنكسر بهذه الطريقة وان كسروا الجسد،. لم يكسروا حسه الساخر ولا تصميمه على موقفه، فقد رسم فرزات نفسه وهو في المستشفى ملفوفاً بشاش ابيض وإصبع كفه الوسطى تبرز من شاش يلف جروح كفه متحدياً الطاغوت. «لا اصبع تعلو على اصبع الشعب بعد الآن»، تتردد العبارة على لسان من وصلوا الى استحقاق الانتخابات الجديدة النظيفة من دون دس اجهزة الأمن. في مصر، أنشأ الناشطون في الصيف الفائت صفحة على موقع التواصل الاجتماعي «فايسبوك»، باسم «صباع اللواء الفنجري» سخروا فيها من نبرة التهديد التي ألقى بها مساعد وزير الدفاع وعضو المجلس الاعلى للقوات المسلحة بيان المجلس العسكري الذي قابله المعتصمون في ميدان التحرير بالرفض. كان الفنجري يرفع اصبعه بين جملة واخرى، ليؤكد على الوعيد. الا ان شباب الثورة ردوا عليه بعبارات متهكمة مثل: «الشعب يريد اسقاط الصباع»، و «ارفع صباعك فوق ..انت مصري». المصريون عموماً وبأكثر مما كان متوقعاً من مشاركتهم في الانتخابات الاخيرة، غمسوا اصابعهم بالحبر البنفسجي ورفعوها عالياً متباهين بها انها انتصرت بعد مطالب مع سبق الاصرار والتصميم. في الايام الاولى للثورة في ليبيا برزت إصبع سيف الاسلام نجل الرئيس الليبي معمر القذافي الذي أطل من على شاشة التلفزيون الرسمي مهدداً الليبيين بشتى أنواع العقوبات من حرب أهلية وقبلية. تطاولت الاصبع في حينها على الشاشة حتى كادت أن تخترقها باتجاه عيون المشاهدين. وقد أعقبت تهديدة الاصبع غضبة والده التي هدد فيها الشعب الليبي باللحاق بهم، زنقة زنقة، الا ان مسار الواقع انتهى بالأب وابنه الى مصير بشع كان أهون المشهدين فيه أصابع نازفة لفت برباط ابيض حول كف سيف الاسلام بعد ان أسره الثوار الليبيون ونقلوه بالطائرة الى حيث سيحاكم. لا مسامحة لمن وضع اصبعه على زناد السلاح ليقتل شعبه، ولا من يتوعدهم بأصبعه ببئس المصير، لكن القصاص يجب ان يتم عبر القضاء لا عبر السلاح. في المجتمعات العربية التي بدأت استحقاق الديموقراطية، كانت الاصبع المبللة بالحبر البنفسجي علامة الدخول في المرحلة الجديدة التي لن تحمل بالضرورة بهجة اللون نفسه، لكنها ايضاً لن تعود الى الوراء، أي الى مرحلة تزوير الارادة الشعبية. انوه الى انه في مقتبل هذا الربيع العربي، وجه ناشط عراقي نداء نشره على موقع «الحوار المتمدن» الى الشعب العراقي قال فيه: «في الذكرى السنوية الاولى لانتخاب أسوأ برلمان وحكومة في تاريخ العراق نصف الديموقراطي، دعوة الى تضميد الاصبع البنفسجي او صبغه باللون الاسود في يوم الاثنين 7 آذار 2011، احتجاجاً على تنصل ساسة العراق من وعودهم الانتخابية». ردود الافعال من هذا النوع تدعو الى الشعور بالطمأنينة بأن الحراك الديموقراطي بدأ فعلاً عندما يلجأ الناس الى التغيير والتعبير عن الرفض بوسائل من داخل الديموقراطية لا من خارجها. الأصبع بالاصبع، اذاً، وأمام كل اصبع مسؤول سياسي او ديني يهدد حريات شعوب المنطقة، يبرز التحدي لاسترجاع الشعب اصبعه الانتخابية، علامة الارادة المغيبة، تلك الاصبع المغموسة بحبر بنفسجي، الوشم الذي يؤكد استعادة صاحبه للحرية والدخول الى ايقاع العالم المتحضر في العقد الثاني من ألفيته الثانية. * كاتبة سورية