الى وقت قريب، كان تشريح الكائن البشري، وخصوصاً لون بشرته وحجم أنفه وشكل عينيه، سند الهوية وركنها الأساسي. وبدا ان ما تصبغنا به الجينات من ملامح ثابت لا يتغير. فالمكونات التشريحية هي القدر، على قول نابوليون في السياسة. وبات في متناول الناس تغيير جزء من ميراثهم الجيني، وصبغ لون بشرتهم بسحنة سمراء أو سوداء أو بيضاء، وخطّ استدارة العينين أو تغيير شكلهما، واللجوء الى زرع الشعر، أو الجلد أو الأعصاب أو الأعضاء، أو استبدال الأعضاء الجنسية النسائية بأعضاء ذكرية أو الأعضاء الذكرية بأخرى نسائية. وإذا انتشرت مثل هذه العمليات وأقبل عليها الناس، بطل كون الميراث الجيني سند الهوية المادي أو الفيزيائي. وأعلى المصريون القدماء شأن الأحشاء والرئتين، وحرصوا على تحنيطها. فهي أبرز ما يميز المتوفي، ويعينه على بلوغ الحياة الأخرى. ورأى الطبيب اليوناني غاليان أن الجسد هو آلة تبث فيها الحركة ثلاثة أرواح مرتبطة بالدماغ والقلب والكبد. وفي المجتمعات الحديثة، يُجمع على أن الدماغ هو مركز الهوية ومخزن المعطيات التي هي جوهر تمايزنا. وربما نحن نعلي شأن الدماغ لأنه الغدة الوحيدة في الجسد التي لا نستطيع استبدالها. ويترافق النازع الى أن يكون الفرد محور نفسه، ومصدر قيمه، مع ضعف وحدته الفيزيائية والعقلية التي تمتنع على الانقسام. فالجراحة أعادت صوغ مفهومنا للهوية. وهي تجعل متاحاً أن ينتخب المرء وجهاً جديداً له على شاشة الكومبيوتر، ويرفع الوجنتين وعظمة الذقن، ويمحو الجيوب حول العينين، ويدقق الرقبة. فتتغير كيفية ادراك الذات والنفس. وربما يخلف التغيير أثراً في ذاكرة الذات. فالجراحة هي مفتاح تغيير العرق والجنس والشكل. ويسهم احتمال التغيير هذا، وهو يفترض أن الكائن يصنع ويستبدل، في تذرير وحدة الأنا الوظيفية وتقسيمها. ونجم البوب، مايكل جاكسون، أو إم جي، هو من رائدي الطفرة الفيزيولوجية الطارئة، وهي كانت الى وقت قريب عصية على الانقسام، ومن ضحاياها، في آن واحد. فهو ملتبس الهوية العرقية والجنسية، طفل وراشد، أيقونة التحول والتغير. ويشبه شعره الطويل شعر الغيشا الآسيويات. وحُفر ذقنه بنقرة اصطناعية. وأزالت الحوامض والمراهم لون جلده الأسود، وصبغته بالأبيض. وشُدت بشرته، وخيطت في غرف العمليات. وربما مايكل جاكسون مرآة رغبتنا المتعاظمة في التحول، ومرآة ثمن النزول على الرغبة هذه. وهو محا أشكال التمييز من شكله ووجهه. فهو كائن لا لون له ولا جنس، وليس مسناً أو شاباً، وليس صغيراً ولا كبيراً. ولكن هل خضع مايكل لهذه التحولات لينزل على رغبة معجبيه المعولمين في أن يكون خلاصة الأجناس والأعراق؟ إنه الأسود والأبيض، والمرأة والرجل، والكائن الأرضي والكائن الفضائي الذي يشبه «إي تي» (الكائن الفضائي في فيلم الخيال العلمي الذي يحمل اسمه). ولا تستقر صفة من هذه الصفات على حال واحدة في مايكل جاكسون. وهو يشبه الظبية الخائفة والصقر الكاسر. فمه ملطخ بأحمر الشفاه، وحاجباه مرسومان بفحم أسود، ورموشه مزينة بالماسكارا، ووجنتاه مشبعتان بكريم « كولد كريم». وعلى خلاف مادونا، وهذه حاكت مارلين مونرو وايفيتا بيرون ونسخة وثنية من القديسة تيريز دو برنان، لم يكتف بيتر بان هذا، القادم من مزرعة «نفر نفر- لاند»، بمحاكاة الآخرين. فهو دمج أبطاله، وهم ديانا روس ومارسو (مؤدي فن الإيماء) وليز تايلور، في نفسه، و «استبطنهم»، وامتزج بهم. فحقق حلم التهام الآخر من طريق اجتياف شكله، واستعارة ما يضفي على الآخر تألقه. فكأن مايكل ذهب في رحلة الى الآخر، واختبر «ايغو - تريب» (رحلة - أنا). وفقد مايكل جاكسون ملامحه الأولى أو الأولية كلها. وهو معقل أنانية تشبه كل ما لا ترغب في أن تشبهه. وربما تخلى جمهور مايكل عنه اثر اتهامه بالاعتداء على الأطفال، جراء عجزه عن التماهي فيه. وغنّى مايكل حذره من المرأة وارتيابه منها، وخوفه منها في أغنية «بيلي جين». وجهر خشيته «التهمة» بعلاقات جنسية. وربما أدى حرمانه اللعب، والتمتع بطفولته، إلى إقامته مع والديه الى حين بلوغه ال29 من العمر. وشيّد مدينة ملاهي يلهو فيها «مثل أي طفل في الثانية عشرة من العمر»، على حد قول أحد محاميه. وطوال أعوام، شارك «بيتر بان» هذا غرفته مع أفعى بوا، أطلق عليها اسم «مسلز» (عضلات). وفي 1983، روى حبه لهذه الأفعى قائلاً: أحبها كثيراً، وأحب الزواحف. فأنا مثلها اختبرت التحول وانسلاخ الجلد، وأعرف ما هو التحول، ومعظم الناس لا يخرجون من إهابهم، ولا يتحولون بل يشيخون. وأنا تحولت من طور الى طور. والتحول لا يحتمل. وانصرف مايكل طوال أعوام الى العناية بشمبانزي صغير اسمه «بابلز». ثم شعر بالقلق لأنه لا يميل الى أي من الجنسين. وبدأ يرتاد نوادي المثليين في وست هوليوود. واستقبل في سريره بعض معجبيه الفتيان. وقال انه يمضي الوقت معهم في قراءة القصص، وشرب الحليب الدافئ. وفي 1997، أنجب ولداً من طريق التخصيب الاصطناعي. وحملت الجنين مساعدة جراح التجميل الذي اعتنى بمايكل جاكسون من دون أن تظهر علامات الحمل عليها. وأنجب منها ولدين آخرين، أبيضين وأشقرين. وحملت أم مجهولة الهوية طفله الأبيض الأخير. وفرض على أطفاله وضع أقنعة أوكسجين. وتجنب «بيتر بان» إنجاب طفله أسود. لم يتستر على رهابه من العلاقات الحميمة وسواد بشرته. ولم يكن مايكل جاكسون يبارح حديقة حيواناته في مملكة «نفر- نفرلاند» إلا على مضض. وينفي ملك البوب، هو الرجل الذي توحي طلته للناظر إليه أنه أمام غرفة عمليات جراحية متنقلة، أنه خضع لعمليات تجميل، ويقر أنه عدل شكل أنفه فحسب. وذاع صيت إم جي يوم كان في السادسة من العمر. وقررت محطة تلفزيونية أن تنتج مسلسلاً يلعب فيه طفل دور مايكل. فاختار هذا الأخير أن يؤدي طفل أبيض البشرة وأزرق العينين دورَه. وغيّر مايكل شكل قامته ليشبه أبطال الرسوم المتحركة، ولا يدين بحياته الى والده العنيف والقاسي، على ما لا يدين أولاده له بالحياة. وهو صنيع أعماله وولدها، ومُخطط معالمه، وأول من صنع نفسه في عصر واعد بالاستنساخ. وعندما سئلت زوجته، ابنة ألفيس برسلي، عن تحولات طليقها، قالت مستهجنة السؤال: «مايكل فنان». وكأن جسده هو تحفته الفنية، وهو موجب وجوده. ويشبه جاكسون بطل ايبسن، بير جينت، الذي جاب العالم باحثاً عن هوية ينتسب إليها، وكأنه يحلم بحفر عبارة: «هنا يرقد لا أحد» على شاهد قبره. ورفع عالم الريف الزراعة، وركنه هو توالي الفصول والمحاصيل الزراعية، شجر السنديان الى مصاف رمز الهوية وشجرة العائلة والأصول. وأبرز العالم الصناعي نماذج الرجال الحديديين، ومنهم ستالين صاحب سياسة فرض سياسات التصنيع، ومارغريت ثاتشر، «السيدة الحديدية». وأعلى شأن أصحاب العمل والعمال المتفانين. وفي دائرة العالم الافتراضي والرجراج المولود من رحم البيكسل والبيتس (وحدة الصورة)، وهي وحدات كومبيوتر تحل فيها الصور، نحن مدعوون الى إعادة رسم أنفسنا، والاحتذاء على مزج برامج التصوير الإلكترونية وجه المغني، برينس، في وجه الأم تيريزا، أو في وجه سيندي كراوفورد أو الملاكم مايكل تيسون. فنحن على قاب قاسين من ولوج عالم قوس قزح انساني يتيح للمرء أن يذوب في الآخرين، ويتصور في صورتهم. وضحى مايكل جاكسون بجلده، وأماط اللثام عن الشياطين المتلطية وراء تساؤلات الهوية. ويترافق طي الغرب المعتقدات الجماعية، وصبغه الحياة بطابع زمني، وتذرر الجماعات، مع انتساب الأفراد الى ذواتهم، عوض الانتساب الى جماعات القرابة والمهنة والصداقة وهوياتها. وطلب الناس حق صوغ هويتهم، وتغيير صور أجسادهم. ومع سيرورة إرساء المبادئ الديموقراطية وشيوع المساواة الجامعة العامة، ثقلت وطأة فكرة الاختلاف الرمزي على الناس. وبرزت حاجة الى التقرب من الآخر، وربما الى الذوبان فيه، وإلغاء قرائن الفرق بين البشر. * أديب، وباحث، عن «كي دي جو اون نو» دار غراسيه، 2006، إعداد منال نحاس