من دار الثقافة-ابن رشيق في قلب العاصمة التونسية، انطلق معرض التشكيلي التونسي عبدالباسط التواتي، ويستمر حتى الثاني من الشهر المقبل، تحت عنوان «حديث الجدران من تونس إلى طرابلس». ولعل معرضه الجديد هو أقرب إلى تكملة أو مواصلة لمعرض أقامه أواخر آذار (مارس) الماضي، وكان الأول من نوعه بعد ثورة الياسمين، وحمل آنذاك عنوان «حديث الجدران»، وقدّم فيه عشرات الصور الفوتوغرافية التي التقطها في عدد كبير من المدن التونسية، كما أرّخ للحظة الراهنة من خلال الكتابات والرسوم الجدارية (الغرافيتي) التي تركها الثوار التونسيون على الجدران والأبواب والأسوار، فكان المعرض بمثابة شهادة حية على المتغيرات التي تشهدها البلاد. المعرض الجديد للتواتي، وهو أصلاً طبيب، جاء بعد جولة في العديد من المدن الليبية، حيث طاف وتجوّل والتقط صوراً لمئات الرسوم والكتابات على الجدران. ويرى التواتي أن عمله يندرج في إطار «حفظ وثائق تاريخية يمكن أن تطمس في أي وقت، سواء بعوامل طبيعية أو بأيدي البشر». لا شك في أن الغاية من «الغرافيتي» ليس تلطيخ الجدران بالألوان والأشكال، بقدر ما هو التعبير عن موقف أو فكرة أو رأي، بعفوية أحياناً وبحرفية أحياناً أخرى. ويقارن التواتي بين الرسوم في ليبيا وقريناتها في تونس، ويرى أن تلك الليبية «تبدو أكثر حرفية وعمقاً، على عكس الرسوم التونسية التي طغى عليها الأسود ولم تحمل في طياتها عمقاً فنيّاً». ويضيف: «في الشوارع الليبية تجد رسوماً أقرب إلى الأعمال الفنيّة منها إلى اللوحات العفوية، ما يعدّ إضافة نوعية الى تلك الرسوم التي يجب أن توثق قبل أن تُزال لأي سبب من الأسباب». وفي إحدى اللوحات، صورة ضخمة للزعيم الليبي السابق معمر القذافي، هي أقرب إلى الكاريكاتور، حيث عمل الرسّام على إظهار القذافي في هيئة مهرّج، وسعى إلى إبراز تفاصيل معينة في وجهه وشكله، مع الاعتماد على الأصفر والأحمر، إضافة إلى القليل من الأخضر، ما زوّد الصورة بجماليتها وهي في الأصل للتهكم. وفي رسم آخر، يظهر القذافي وفي يده سيف ملطخ بالدماء، وفي غيرها نجد عدداً من الصور المرسومة والمتراصفة لتمثّل طرقاً محتملة قد يسلكها القذافي (قبل سيطرة الثوار على طرابلس واغتياله) أو نهايات قد يختتم بها أكثر من أربعة عقود من الحكم، ومنها محاولته قتل نفسه بمسدس وتعليق مرافق يقول ما معناه «افعلها وريحنا». إضافة إلى صورة أخرى يظهر فيها معلقاً بحبل على هيئة المشنوق، وصورة أخرى تبيّنه في هيئة شجرة يسعى الشعب إلى اقتلاعها بصعوبة... وكلها صور تبرز الرغبة الجامحة التي كانت دفينة في صدور الليبيين لاقتلاع مَن جثم على صدورهم كل هذه السنوات تاركاً بلادهم بلا تنمية ولا تقدّم يذكر على رغم تمتّعها بالنفط وبموارد طبيعية كفيلة بجعلها واحدة من أكثر الدول رخاء. في إحدى الصور بعدسة التواتي، يبدو وجه القذافي محاطاً بالصواريخ والمتفجرات وآلات القتل، وعلى يمين الصورة تاريخ 17 فبراير، مع تعليق: «كل شيء انتهى»، وعلى اليسار تاريخ 23 أكتوبر وتعليق: «نبدأ الآن ليبيا». فضاء واحد يتضمن المعرض حوالى أربعين لوحة جديدة رصدها عبدالباسط التواتي في مدن تونسية وليبية، وهو جمع «غرافيتي» البلدين في فضاء واحد، رغبة منه في تقديم الهمّ المشترك بينهما. ولئن كان القاسم المشترك بين الأعمال هو الثورة، فإنّ طريقة التعبير اختلفت أحياناً بين الشعبين، خصوصاً على مستوى الألوان، إذ اعتمد الليبيون ألواناً جاءت في معظمها مشرقة وتحاكي ألوان علم الاستقلال الليبي، لا سيما الأحمر والأخضر، مع إضافة الأصفر، الذي يرمز عادة إلى الشمس والضياء. يُذكر أنّ التواتي صاحب تجربة فنية متفردة في الرسم والنحت، ليس في تونس فحسب، بل عربياً أيضاً، إذ يتميز باعتماده مواد ومحامل غير عادية في أعماله، كاستخدامه بقايا مختبرات طب الأسنان، وصور الأشعة التي غالباً ما يلقيها الأطباء مع النفايات الطبية وتكون مصدر تلوّث، ليصنع أعمالاً فنيّة تحمّل تلك المواد جمالية وإبداعاً بعدما كانت مهملة بلا فائدة. وأقام التواتي عدداً كبيراً من المعارض في تونس وخارجها، وساهم في إثراء المشهد التشكيلي التونسي. كما تابع دراسة أكاديمية في المعهد العالي للفنون الجميلة في سوسة، حيث نال إجازة الفنون التشكيلية. وعلى رغم حِرَفيته العالية، وتمكّنه من أدواته، ما زال يعتبر نفسه «فناناً هاوياً» يسعى إلى تقديم الأفضل مع كل معرض جديد. ومن الطرائف التي تروى عن يوميات الدكتور عبدالباسط، أن عيادته تنقسم جزءين، أحدهما خاص بمرضاه، والآخر مرسم أو هو أقرب إلى ورشة مفتوحة وفيه كل تجاربه منذ بداياته الفنية حتى اليوم... وفي المرسم مفاجآت بالجملة، إذ يعمل الآن على التحضير لمعرض جديد اعتمد في كل لوحاته على بقايا الأقمشة ليكون، مرة أخرى، فناناً صديقاً للبيئة ويبدع.