خمس ساعات كاملة تقضيها سعاد في الحديث مع أولادها المغتربين في أوروبا، يتبادلون خلالها الحوار عبر «السكايب» عن أوضاعهم اليومية هناك وأهم الأحداث التي تتعرض هي لها في العراق. لسعاد ابنتان وثلاثة ذكور، سافر ثلاثة منهم الى اوروبا منذ اعوام، وكانت تتحسر على ندرة لقاءاتها بهم، قبل أن يقنعها احد احفادها بشراء كومبيوتر محمول وتعلّم استخدامه، ليكون نقطة التواصل الدائمة مع اولادها. وعلى رغم انها كانت تنتقد ذلك الحفيد بشدة لكونه يقضي معظم وقته أمام جهاز ال «لاب توب» الصغير الذي يملكه، باتت تعترف بأن التكنولوجيا التي تبعد حفيدها عن والديه لساعات طويلة، انقذتها من الشعور بالوحدة، وفتحت لها باب التواصل اليومي مع اولادها. وتقول: «تعلمت استخدام الكومبيوتر لأتمكن من الحديث مع أولادي في الخارج، فالموجودون في الداخل هنا مشغولون بحياتهم بشكل دائم، ولا أحد يتحدث معي بعدما صاروا يقضون وقتهم امام التلفزيون والكومبيوتر. اخلاص هي الأخرى باتت تقضي ساعات مع جهاز «البلاك بري» الذي اقتنته في سفرتها الأخيرة الى اميركا، في الوقت الذي يشكو زوجها واولادها من بعدها المتواصل عنهم، وعدم جلوسها بينهم ساعات راحتها التي تقضيها في تصفح الانترنت عبر جهازها الصغير. أما هي فتبرر هذا الأمر بحاجتها الى وقت خاص بها، تتحدث خلاله مع اصدقائها، فانشغالها الدائم بالعمل أستاذة في الجامعة لا يتيح لها عقد لقاءات دورية مع صديقاتها مثلما كانت في السابق، فباتت تلجأ الى جهازها الصغير للتعرف الى أحوالهم والتواصل معهم. وتقول: «في ما مضى كنت وصديقاتي نعقد لقاءات اسبوعية في احد مطاعم بغداد، ونقضي ساعات طويلة في تبادل الحديث والنكات والتعرف الى احوال بعضنا بعضاً، اما اليوم فلم تعد هذه الامور متاحة امامنا وبتنا نتواصل عبر «فايسبوك» والماسنجر وغيرها». التكنولوجيا التي باتت اداة تواصل بين اخلاص وصديقاتها، وسعاد وابنائها ابعدت الاثنتين عن التواصل الحقيقي مع العائلة، وباتتا تقضيان وقت الفراغ مع الأجهزة الالكترونية، والحال ذاتها مع آلاف الشباب العراقيين الذين باتوا لا يخرجون من غرفهم بعد عودتهم من العمل او الجامعة إلا لتناول الطعام فيما يقضون معظم اوقاتهم امام اجهزة الكومبيوتر او اللعب بأجهزة الموبايل والدردشة مع الأصدقاء. قضية التواصل الأسري بشكلها التقليدي في العراق، والتي كانت تجمع العائلة مرات عدة في اليوم سواء الى موائد الطعام ام الى برامج التلفزيون أو جلسات الشاي، أصبحت نادرة وصعبة، وباتت تقتصر على العائلات التي لم تتمكن، بعد، من التواصل مع عالم التكنولوجيا، لاسباب اقتصادية ولوجستية، وما زالت تلجأ الى جهاز التلفزيون كمنفذ وحيد للتسلية. أما فراس الذي يعمل مع احدى الشركات المتخصصة في الإتصالات، ويقضي ساعات طويلة امام جهاز الكومبيوتر لمتابعة العمل، وعلى رغم أن عمله خارج البيت لا يستغرق سوى اربع ساعات، إلا انه لا يتحدث مع زوجته إلا نادراً ويجلس معها لوقت محدود. ويقول فراس معترفاً ب «غرابة» الوضع: «أشعر بالذنب تجاه زوجتي التي تقضي غالبية الوقت بمفردها، وتلومني على هذه القطيعة، وأحاول أن أعوّض الأمر بإلقاء السلام عليها احياناً على الفايسبوك او بارسال نكتة على الماسنجر». وزوجة فراس تتذكر ايام الخطوبة بحنين بالغ وتقول: «كنا نلتقي يومياً ونتحدث لأكثر من ساعتين، أما اليوم فلا أراه إلاّ ملتصقاً بشاشة الكومبيوتر، حتى أفكر احياناً أنه تزوج الكومبيوتر بدلاً مني». ومن دون أدنى شك دخل التواصل الأسري في العراق في دوامة خطرة، إذ يبدو مهدداً ب«الإنقراض»، ليس بسبب التكنولوجيا فحسب، بل بسبب المشكلات الأسرية بين الأزواج أو بين الشباب والمراهقين وأسرهم التي غالباً ما تدفع باتجاه البحث عن بديل آخر للتواصل يتمثل بأصدقاء الانترنت و «الفايسبوك» وغيرهم.