منذ أتاتورك برزت في الدولة التركية حساسية مفرطة إزاء كل ما يتعلق بالشأن الكردي. أزيلت الأسماء والتواريخ والجغرافيا الكردية من أي تداول، مكتوب أو شفهي، ومُنِع التكلم باللغة الكردية في كل الأماكن، بما في ذلك داخل البيوت، بحيث إذا ضبط أحدهم يتكلم مع أمه أو أبيه بالكردية أدخل الجميعُ السجنَ. وباتت أي إشارة إلى الوجود الكردي جريمة يعاقب عليها القانون، بل إن الخرائط والكتب العثمانية القديمة التي تشير إلى ولاية كردستان سحبت من التداول، وما بقي تعرض إلى «التصحيح»، فأزيل منه ما يتعارض مع العقيدة الصارمة للدولة الجديدة التي باتت تنفي أن يكون ظهر إلى الوجود شعب (أو قوم أو جماعة أو ملة أو إثنية أو حتى عشيرة) باسم الكرد. ونشأ في الفضاء المجتمعي التركي محرّم فظيع يطاول أي شيء كردي، وانغرست في الأذهان «حقائق» جديدة تخالف البديهيات التي اعتاد عليها الناس طوال مئات السنين. بدا الأمر شبيهاً بالحملات الاستئصالية التي جردتها الحكومات الشيوعية على «العدو الطبقي» لإبادته وإزالة كل ما يتعلق به على صعيد اللغة والتاريخ والثقافة وعلم الاجتماع. وصدرت دراسات وبحوث كلها تسعى في إثبات شيء واحد: لا شعب في الأرض يسمى الأكراد ولا منطقة تسمى كردستان. ورُسم الشيخ سعيد بيران وسيد رضا وسواهما من القادة الكرد الذين سبق أن قاوموا هذه الوجهة، خونةً ورجعيين وقطاع طرق، وأعلنت أيام إعدامهم لحظات ظفر في تاريخ الدولة التركية. الآن، ها هي «الحقائق» تتبادل الأمكنة. تغيرت تركيا كثيراً في السنوات الأخيرة، وهذه هي النتيجة: في الساحة التي شهدت إعدام الشيخ سعيد بيران في مدينة ديار بكر الكردية تنتصب جدارية تحمل صورته ويحتفل الناس بذكراه، ليس كخائن ورجعي وقاطع طريق، بل كبطل سعى في تحرير الكرد من الظلم والاضطهاد. وفي أنقرة، عاصمة الدولة التركية، يخرج رئيس الوزراء التركي نفسه إلى الملأ ويقدم اعتذاراً للكرد والعلويين باسم الدولة التركية التي «اقترفت المجازر الرهيبة في درسيم وأعدمت البطل سيد رضا». كانت المؤسسة العسكرية، في ما مضى، تقيم أمسيات للاحتفال بالانتصار على الخونة كذكرى مجيدة. أما الآن، فراحت الحشود الضخمة من الناس تلتقي لتذكر مناسبة الإعدام بوصفها لحظة عار في تاريخ تركيا. هذه واحدة من علامات بدء انهيار الحاجز النفسي الذي كان ترسخ في أذهان الأتراك إزاء الأكراد خلال سبعين سنة من التلقين والتصحيح وغسل الدماغ، وهذا يُعَدّ إعادةَ اعتبار إلى المدانين من الضحايا الكرد وطعناً بالرواية الرسمية التي بقيت قيد التداول طوال الفترات السابقة. والحال أن ذلك لم يحدث فجأة، بل تبلور اثر عملية خروج تدريجي من الزنزانة الضيقة للإرث الأتاتوركي. وكان سبق ذلك الانفتاح على إقليم كردستان العراق الذي دأب المسؤولون الأتراك على اعتباره شوكة مؤلمة لا بد من اقتلاعها. ولم تدخل كردستان العراق قاموس التداول السياسي التركي إلا أخيراً، بل إن الساسة الأتراك كانوا يمتنعون عن الإشارة الى الزعماء الأكراد إلا بوصفهم رؤساء أحزاب عشائرية. يمكن القول إن المقاربة الجديدة للشأن الكردي لدى السلطة السياسية التركية بدأت مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم، ففي موازاة سياسة تصفير المشاكل مع الخارج، بُذلت المحاولات لتصفير المشكلة الكردية في الداخل. وإذا أخذنا في الحسبان التركة المهلِكة للسلوك الرسمي في ما يخص الشأن الكردي، فإن قفزات هائلة تحققت في هذا الميدان، وكان اعتذار رئيس الوزراء عن مجزرة درسيم أكثرها علواً وجرأة. التاريخ المكتوب للدولة التركية الحديثة كان ترسّخ من خلال ترسيخ العداء للقومية الكردية ورسمها في صورة النقيض المميت للقومية التركية. وكما في الصيغة الشيوعية عن التاريخ بوصفه سيرورة التناقض بين الطبقة العاملة والبرجوازية، والذي لن يحل إلا بالقضاء على الأخيرة، بدا التاريخ الرسمي التركي تلخيصاً للصراع بين الدولة والأكراد. وإذ اندحرت الشيوعية وانتهى التناقض مع الرأسمالية، فكان نهاية التاريخ كما قيل، ها هي ذي الأتاتوركية في طريق الاندحار، ومعه يقترب التاريخ التركي في مواجهة الأكراد من نهايته. سيكون ذلك نهاية لمنظور استئصالي ولأيديولوجية قومية متزمتة تقوقعت في السجن الحديدي للدولة- الأمة التركية. وسيضع ذلك حداً للخرافات العنصرية عن أتراك الجبال والقوم التركي السيد ودولة الشمس التركية، وأحفاد الذئب الأغبر وما شابه. ولسوف يشفى الأتراك من ذلك المرض المزمن الذي كانت أبرز عوارضه البارانويا الرهيبة أمام كل شيء كردي. الآن تلوح نهاية التاريخ التركي-الكردي بالشكل الذي كرسته الأتاتوركية.