توماس ترانسترومر الشاعر السويدي الحائز جائزة نوبل للآداب عام 2011 لا يزال معقود اللسان منذ عشرين عاماً. ملحق «عالم الكتب» في صحيفة «لو موند» تعقّب هذا الشاعر السويدي الذي يستغني عن الكلمات والحوار عبر الكتابة. هذا التحقيق الذي كتبه الصحافي نيلز سي أل لصحيفة «لو موند» نترجمه هنا إلى العربية نظراً إلى أهميته، خصوصاً أنّ ترانسترومر مُتَرجمٌ عربياً. في نهاية فصل الخريف، وتحت طبقة رقيقة من الغيوم، تمتدّ مدينة رينكبي الصغيرة بعمرانها وهندستها المعمارية العادية والمنتظمة التي تتسم بها الضواحي المتواضعة. تبعد هذه المدينة مسافة عشرات قليلة من الكيلومترات عن وسط ستوكهولم، ويناهز عدد سكانها 15 ألف نسمة، من بينهم أكثرية ساحقة ذات أصول أجنبية أو والدين أجنبيين. لرينكبي وجه شبه ببابل، إذ يُحكى فيها عشرات اللغات، إضافة إلى اللغة السويدية. ولعل عددها يصل إلى المئة: إنه عدد تقريبي لا يمكن التأكد منه، إلا أنه رمزي. وبالتالي، للإشارة إلى اللغة العامية التي ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين في محيط ستوكهولم، ما بين مالمو وغوتنبرغ، نقول إنها لغة «رينكبي سفينسكا» (وهي الكلمة السويدية لرينكبي») أو لغة «فورورتس سفينسكا» (وهي المقابل السويدي لكلمة ضاحية). ولكن في 14 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، نظّمت المكتبة البلدية العامة لقاء مدهشاً يتكرر منذ عشرين عاماً: فبعد أيام قليلة من تسليم جائزة نوبل في الآداب، يستقبل تلاميذ مدرسة قريبة الفائز بها. ويكون التبادل الحاصل غير متوقع، بمقدار ما هو مذهل، وحتى بنظر المشاهدين الأكثر تهكّماً. فيكون الاختلاط حسناً، وتتسم أجواء الميلاد بالنشاط الاجتماعي والشاعرية. وفي حضرة توماس ترانسترومر مراهقون هادئون ومرحون أحياناً (يُسمَع ضحك كثير في الصالة)، يقرأون ويحللون ويفسرون نصوصاً للمؤلف تم اختيارها للمناسبة. وفي الصف الأمامي، يجلس ترانسترومر هادئاً وبشوشاً، ويبدو أنه يستمتع بكل لحظة. ففي عام 1990، تسببت جلطة دماغية بحبسة لسان المؤلف شبه كاملة. يأتي المساء، ونعاود التفكير في القصيدة التي ألقتها زوجته خلال حفل تسليم جائزة «نوبل» قبل أربعة أيام: «تعبت من كل الذين يأتون ومعهم كلمات. كلمات، وليس لغة» (من قصيدة «في آذار (مارس) 79»، ضمن مجموعة «الساحة المتوحشة»، 1983). فبين الشاعر المحروم من الكلمات والأولاد المتعددي اللغات في رينكبي، ثمة لغة نتحدث عنها. حتى أننا نخشى في الواقع، ألا نكون بمهارة تلاميذ مدارس ضاحية ستوكهولم، خلال اللقاء الذي منحنا إياه ترانسترومر في منزله في اليوم التالي. أفضل الحالات على رغم ذلك، يبدو أن أحداً لم يجد سبباً للشعور بالقلق. وكل ما توصينا به مونيكا ترانسترومر هو القدوم في منتصف فترة بعد الظهر، إذ إن زوجها يكون آنذاك في أفضل حالاته. وتطمئننا محررته إيفا بونييه هي التالية في الصباح – وتصر على أهمية جائزة «نوبل» في الآداب لعام 2011 بالنسبة إلى السويديين (فهي «شرف وطني»). إنها مكافأة منتظرة تمحو جزئياً الجدل الذي قام حول منح الجائزة في عام 1974 لهاري مارتينسون وإيفند جونسون، وكلاهما عضو في الأكاديمية السويدية. قالت، وعلى شفتيها بسمة، ما لا شك فيه: «لتوماس شعبية كبيرة منذ وقت طويل. إنه أكثر الشعراء السويديين شهرةً في الخارج، وقد تُرجِمت أعماله إلى 54 لغة». بيع معدّل 20 ألف نسخة عن مجموعاته الشعرية الأخيرة، وأكثر من 70 ألف نسخة عن مؤلفاته الكاملة بطبعات كبيرة – و100 ألف نسخة جيب. الأرقام تتكلم عن الواقع. وفي الساعة الثالثة والنصف من بعد الظهر، يسدل الليل ستاره المظلم على ستوكهولم التي لم تغطها الثلوج بعد. وعلى هضاب المدينة، تقع الشقة الصغيرة والدافئة التي تقطنها أسرة ترانسترومر. الشاعر ليس على كرسي متحرك كما في الأمس. وبما أن السير صعب عليه، يتّكئ على عصا. وجودنا يسلّيه، شأنه شأن ارتباكنا من دون أدنى شك. وليس في متناوله إلا مقدار قليل من الكلمات، وخصوصاً تعبيراً أصبح جامداً، يستخدمه كما يحلو له، صاقلاً نبراته، ومتلاعباً بحدّته. فيقول «ميكت برا» – أي «جيد جداً». بالقرب منه مونيكا تترجم. بل الأصح أنها تتحاور معه، وتعرض الإجابات عليه، ويوافق عليها، أو لا يوافق، بحماسة. وسرعان ما ندرك أن توماس ترانسترومر لا تفوته شاردة ولا واردة، بل إن كل تفصيل مهمٌّ. أما مونيكا، فتعيد كلامها مرات عدّة، وتنبّه إلى أنها غير متأكدة. وتعترف عندما يفوتها المعنى تماماً. فتقول: «سأفهم حتماً ما يقصده بعد بضع ساعات، أو في منتصف الليل». تقول ذلك مبتسمة بتواضع. ويضحك زوجها معها. ويبقى هذا الحديث المحير أحياناً نادراً بوضوحه. وغالباً ما يدعم توماس ترانسترومر إجاباته بالإشارة إلى بعض المقتطفات في قصائده. وفي حين يقر، بهذه الطريقة، بأهمية بعض الشعراء الفرنسيين في تأثيرهم في موهبته الشاعرية، يعود إلى قصيدة «إهداءات» («ائتلافات وآثار»، 1966). فيقول: «لقد لامس إيلوار زراً/ فانفتح حائط/ وظهرت الحديقة». مأخوذ من مجموعة «حالات إدراك مفاجئ». ما كان أحد ليصف الأمور بصورة أفضل. وتكشف مونيكا ترانسترومر كتابه بجانب السرير، في تلك الفترة، مشيرة إلى مجموعة مختارات أدبية وضعها إريك ليندغرين وإيلمار لابان، ويحمل الكتاب عنوان «19 شاعراً فرنسياً من العصر الحديث» 19 moderna franska poeter. وبعد ذلك، وبعد الإحالة إلى ديكنز (وإلى «أوراق نادي بيكويك» المنشورة بعد وفاته) يورد كتاب «إهداءات» أيضاً ذكر روائي بلجيكي شهير: «كنا نوصد الأبواب على أنفسنا برفقة سيمينون/ لتنشق رائحة الوجود البشري/ في المكان الذي تؤدي إليه المسلسلات». «يُطرَح سؤال: هل يقرأ الناس حتى الآن في فرنسا؟» ويكلل ردَّنا الإيجابي تعبيرُ «ميكت برا» المبتهج بالنصر. مع أن عندما كان ترانسترومر في سن أصغر، دفعته طموحاته إلى الموسيقى، باتجاه امتهان العزف على البيانو والتلحين. «لم يتغلب الشعر عليه إلّا في وقت لاحق». «ولا شك في أنه أبقى على طريقة لنظم الكلمات شبيهة بنظم الألحان: «باللجوء إلى مقتطفات، بين القطعة والأخرى، وكأنه موسيقي». وبالفعل، تبدو موسيقية الجملة لدى ترانسترومر واضحة للعيان وجلية حتى في عناوين قصائده: «سي الكبرى»، «لامنتو»، «أليغرو»، «المقطوعة الحالمة» (وليست هذه إلا أمثلة قليلة ضمن مجموعة قصائد «السماء» نصف المكتملة، 1962). كما أنها تزدهر بالبراعة ذاتها إذ تندرج على إيقاعات وجيزة، ومن خلال القصائد الشخصية، والكتابات الطويلة السمفونية («بلطيقيات»، 1974). إلا أن الأصوات تتسم بطابع ملموس أكبر: نظرة وواقع يتدفقان على شكل قصيدة. وهكذا، بعد أن حصل ترانسترومر الشاب على شهادة في علم النفس، عمل أولاً في معهد نفسي، ثم في سجن للأحداث. وإن كان يقر بأن هذا الالتزام أضر في أحد الأوقات بانتظام كتاباته، إلى حد دفعه إلى اختيار وظيفة بدوام جزئي للاستمرار في كتاباته، فهو يعترف اليوم بتأثير عالم النفس في الشاعر. ويفضي وسط ابتسامة تترجمها مونيكا بأنه «في تلك المرحلة، وعندما كانوا يطرحون علي السؤال، كنت أكذب وأجيب لا بكل ثبات». حيث إن العنصر الأول يمنع الثاني من الكشف عن مصادره – التي تقوم أحياناً على مرضاه. أشخاص وروايات وعلى سبيل المثل، يشير إلى أن القصيدة الطويلة بعنوان «صالة العرض» («حاجز الحقيقة»، 1978) التي استغرقته كتابتها عشر سنوات، «تحفل بهؤلاء الأشخاص وبرواياتهم». ويتطابق النص مع «متطلبات الحقيقة». إنها عملية بحث، تنتقل بين كلمة وأخرى تُرمَى مع مرور الوقت على الورق قبل تأليف النص بصورة نهائية، يتغلغل فيها الوقت، الذي يتشتت أحياناً إلى أجزاء عدّة تكون «بالغة الواقعية». في البدء كانت «صورة وحادثة». وتتخذ العملية دوماً الأوصاف ذاتها، منذ أن بدأ يكتب المجموعات الشعرية في شبابه. وهكذا، وفي قصيدة «بعد الهجوم» («أسرار في الطريق»، 1958)، يقول إن «الصبي مريض/ وحبيس تلك الرؤية/ ولسانه قاس كالحبل/ هو جالس وقد أدار ظهره إلى لوحة حقل من القمح». وتشرح مونيكا قائلة: «لقد رأى توماس هذا الصبي عندما كان عالم نفس شاباً في ستوكهولم، وكانت خلفه نسخة عن لوحة رسمها فان غوغ». وبين عبارة «ميكت برا» وقصيدة، يورد الزوجان ذكر «حوادث» أخرى، وأحداث حاسمة شكلت مصدر مؤلفات ترانسترومر. و «لا شك أبداً» في أن الصداقة التي جمعته بالشاعر الأميركي روبرت بلاي خصوصاً، والمحاضرات والجولات والترجمات المتبادلة أثرت فيه أيضاً. ويمكن أيضاً الكلام عن السكتة الدماغية التي تحضه على اعتماد تركيبات مقتضبة في شكل متزايد، ابتداء من تسعينات القرن العشرين. وماذا عن المقطوعات الشعرية التي نظمها في السنوات الأخيرة؟ «إنها ضرورة»، والأهم أنها «إمكانية». وإذ ورد ذكر ترانسترومر كل سنة كمرشح للفوز بجائزة «نوبل»، لم يكن يصدق كثيراً أنه سيحصل على مكافأة هذه السنة. «كنا نأمل في أن تذهب الجائزة إلى أدونيس، على حد ما كشفته مونيكا، مبتسمة، وهو صديق وشاعر كبير». ويوافقها زوجها الرأي، وهو لا يزال يضحك إزاء «الهرج والمرج» الذي أقدم عليه الصحافيون عند صدور الخبر. وبالكلام في نهاية اللقاء عن مراهقي رينكبي، بلغت الحماسة الزوجين. كانا متأثرين، وبقيا خلال وقت طويل في المكتبة العامة للضاحية، على رغم التعب، ومن العروض التي تلقياها في الأسابيع الأخيرة. وفي تلك اللحظة، يضيف توماس ترانسترومر أمراً لم تفهمه زوجته ومترجمته الفورية. فيكرر فكرته ويحاول الإيماء، محاولاً استخدام كلمات لم يقلها طوال فترة بعد الظهر. لكن جهوده تذهب سدًى، وفي هذه المرة، ما من قصيدة لتوضيح الأمور كافّةً.