رفعت رشا يدها بتفاخر لتشاهد زميلاتها في الصف خاتم الخطوبة الذي وضعته في يدها الصغيرة قبل يومين، من دون أن تكف عن الحديث عن مزايا العريس ووسامته وعن أمه التي بدت غير راضية لأنه فضّل رشا على ابنة شقيقتها. السؤال الذي طرحته زميلاتها حول احتمال رفض العريس أن تكمل دراستها، أجابت عليه بسرعة: «ترك الدراسة كان أحد شروط الخطبة، حتى أنه لن يسمح لي بإكمال العام الدراسي الأول في الثانوية». رشا واحدة من آلاف الفتيات اللواتي يتسربن سنوياً من مقاعد الدراسة، لأسباب مختلفة بعضها يتعلق بالزواج المبكر وبعضها الآخر يتعلق بالوضع الاقتصادي والتقاليد السارية التي تجد في إكمال الفتاة لدراستها عيباً كبيراً ومضاعفاً على العائلة، من دون أن تدرك تلك العائلات أخطار هذا التسرب المبكر. وتقول والدة رشا: «أرغب بشدة أن تكمل ابنتي دراستها وأن تحصل على وظيفة مناسبة، لكن وضعنا الاقتصادي لا يسمح بذلك، ولا أريد أن أموت وأتركها وحيدة مع أشقائها الثلاثة الذين تركهم لي زوجي بعد وفاته قبل عامين». أم رشا لم تحرم رشا وحدها من إكمال دراستها، بل شجعت ابنها الصغير أحمد على العمل في ورشة لتصليح السيارات، ليساعدها في توفير لقمة العيش، فالمردود المالي الضئيل الذي تحصل عليه من عملها في بيع الخبز يكاد لا يكفي لسد رمق الأفواه الجائعة في بيتها. كثيرون هم الأطفال الذين يتسربون من مدارسهم بسبب الأوضاع الاقتصادية، وبعد المدارس عن منازلهم ما يتطلب نفقات إضافية لتنقلهم وبخاصة في المناطق البعيدة خارج المدن التي يزيد فيها التسرب أضعافاً عن المناطق الحضرية. إحدى الدراسات المحلية في مدينة الناصرية جنوب بغداد أشارت إلى أن ثلث عدد الطلاب يتسربون سنوياً من مقاعد الدراسة لأسباب مختلفة من بينها الوضع الاقتصادي، وأن عملية التسرب يرتفع بين الفتيات أكثر من الفتيان. وعلى رغم أن ظاهرة التسرب من المدارس ليست جديدة في العراق، إلاّ أن قانون إلزامية التعليم الذي كان معمولاً به في السابق حدّ من تفاقمها، فالعائلة التي يترك أولادها الدراسة في المرحلة الابتدائية أو الثانوية من دون إكمالها تقع تحت طائلة القانون، وتقوم المدرسة بتقديم شكوى ضد الأب في حال ترك طفله الدراسة، أما اليوم فيكفي أن يغيب الطفل أياماً عن مقاعد الدراسة لاعتباره متسرباً من دون أي إجراء قانوني يجبر العائلة على إعادته. الإحصاءات التي أعدتها وزارة التربية في العامين الماضيين، أكدت ارتفاع نسب تسرب الأطفال من المدارس في شكل كبير في السنوات الخمس الأخيرة، وأن هذا التسرب تسبب في خسائر اقتصادية في قطاع التعليم الحكومي المجاني، وبحسب الإحصاءات المتوافرة في الوزارة فإن نسب التسرب بين الفتيات في المدن تقارب نسب تسرب الذكور ولكنها تزيد في شكل كبير في القرى النائية لتصل إلى 45 في المئة في المرحلة الابتدائية و85 في المئة في المراحل الثانوية. التسرب الذي تم رصده، اعتمد على عينات من الأطفال انتظموا في الدراسة ثم غادروا مقاعدها قبل إكمال مراحلها، لكنه لم يتطرق إلى الأطفال الذين يقطنون في مناطق بعيدة ولم يتمكنوا من دخول المدارس. وأُعيدت أسباب تسرب الفتيات، إلى الزواج المبكر في شكل رئيسي حيث تترك الفتيات مقاعد الدراسة بعد خطبتها بأيام أو أسابيع نزولاً عند طلب العريس، وإلى الوضع الاقتصادي للعائلات الذي يدفعها إلى إجبار بناتها على ترك الدراسة لعدم تمكّنها من تغطية احتياجاتهم. وأوجدت الدراسة أن إلغاء قانون الخدمة الإلزامية في الجيش كان واحداً من أهم أسباب تسرّب الذكور في المراحل الثانوية. فالقوانين السارية قبل سقوط النظام في نيسان (أبريل) عام 2003 كانت تقضي بإعفاء الطلاب الدارسين من الخدمة العسكرية الإلزامية، وتقليل مدتها إلى ستة أشهر لخريجي الجامعات وثلاثة أشهر لخريجي الدراسات العليا. هذه القوانين دفعت كثيرين من الشباب إلى التمسك بالدراسة خشية التحول إلى وقود للحروب التي جرت في البلاد في السنوات الماضية، لكن انتهاء الحروب وإلغاء قانون الخدمة الإلزامية زادا من تسرّب الفتيان من المدارس في شكل طوعي على العكس من الفتيات اللواتي غالباً ما يتركن الدراسة تحت ضغط العائلة. بعض العائلات طالبت في تظاهرات نظّمتها قبل شهور بإعادة قانون الخدمة الإلزامية إلى الجيش ليكون دافعاً لأبنائها لإكمال دراستهم، لكن عائلات أخرى تعترض على هذا الإجراء وترى أنه سيشجع أولادها على التسرب من المدارس ولا سيما أن رواتب العاملين في الجيش أفضل بكثير من رواتب خريجي الجامعات، فضلاً عن وجود الجيش في المدن وليس على الحدود كما كان في السابق.