بعدما كانت عاملات المنازل في المجتمع الاردني مكوناً اساسياً في أي بيت، معيدات الى الاذهان صور العبودية البائدة، بدأت الامور تنقلب في الآونة الاخيرة، اذ بدأت الضحية التي طالما انبرت منظمات حقوق الانسان للدفاع عنها والتنبيه الى الانتهاكات التي ترتكب بحقها بالتحول الى ما يشبه الجلاد... وإن عن غير قصد! فالأردني الذي بهرته العاصمة عمان بما تقدمه من فرص عمل وأجور أعلى بكثير من بقية المحافظات، سعى الى مجاراة الثقافة الاستهلاكية في وقت استفحلت فيه الازمة الاقتصادية وبلغ غلاء المعيشة ذروة غير مسبوقة. واستحكمت في العاصمة تقاليد مجتمع هجين متشكل حديثاً من أبناء القرى والبوادي والمخيمات، ممن سنحت لهم ظروفهم للالتحاق بفرص عمل ثمينة فارتموا في احضان مصارف قضت على الاخضر واليابس في جيوبهم. وبكثير من الامتعاض تقبل فادي الذي يعمل مهندساً، طلب خطيبته استحضار عاملة منزل الى بيت الزوجية المقبل. ويفسر الشاب قبوله بالشرط الاستباقي، إلى كون خطيبته تعودت في منزل عائلتها على اعتبار عاملة المنزل ركناً من أركانه، وربط ذلك بطبيعة عملها لساعات طويلة في شركة خاصة مبدياً تخوفه من عدم قدرته على الوفاء بالتزامات العاملة. أما المحامي هاني، وعلى رغم مواجهته شرطاً مشابهاً مع خطيبته، إلا أنه نجح في اقناعها بتأجيل هذا الطلب ريثما تتحسن ظروفهما. ويقول هاني وهو في مطلع الثلاثينات: «في بداية الزواج تظهر مصاريف لم تكن في الحسبان، ويجب أن يتفق الزوجان على ذلك من اجل التوازن في المستقبل». الاستشاري الاجتماعي والأسري في «جمعية العفاف الخيرية» مفيد سرحان يرد السبب الى التحول في مفهوم الأسرة، ويرى في هذا التحول سبباً رئيساً لتنامي الحاجة الى العمالة المنزلية. ويقول: «كانت الأسرة في السابق ممتدة، وكانت تعيش أسر عدة في بيت واحد، ويتعاون افرادها في ما بينهم، ما كان يساعد في إنجاز الأعمال المنزلية في وقت قياسي ويخفف على النساء». ويضيف أن بعض العوامل الأخرى أيضاً مثل خروج المرأة إلى العمل وضيق وقتها، جعلت العاملة ضرورية للقيام بأمور المنزل ومتطلباته. وإذا كان جدول عمل المرأة العاملة يفرض عليها استحضار مساعدة منزلية، يبقى أن عدداً من السيدات غير العاملات يتكلن أيضاً على العمالة المنزلية لأسباب اجتماعية. ربة المنزل أم محمد تقول إنها استقدمت خادمة لأن جميع صديقاتها في الحي استقدمن عاملات وبكلفة معقولة نسبياً. ويشير سرحان الى تحول كثير من الكماليات إلى ضرورات لا يمكن الاستغناء عنها، لافتاً إلى تقليد ربات البيوت بعضهن بعضاً واعتبار العاملة «برستيجاً لا بد منه». ويضيف سرحان: «التسابق على استقدام عاملة منزل بات مثل الهوس والمرض الاجتماعي، ساهمت النساء في انتشاره وحتى المتعلمات منهن. فتعليمهن لم يترافق مع زيادة الوعي بالواقع المعاش، ليس فقط في مجال عاملات المنازل ولكن في مختلف وجوه الحياة الاستهلاكية المعاصرة». وينصح سرحان سيدات البيوت بإعادة النظر في «تقسيم الأدوار بينهن وبين أزواجهن، والتفكير في إمكانات العائلة الاقتصادية، وحسن تقدير دخل الأسرة ورواتبها، وإن كان هذا الدخل قادراً على تغطية نفقات العاملة وراتبها الشهري وبقية تبعات وجودها في المنزل». فراس صاحب مكتب استقدام عمالة منزلية يتحدث عن التكاليف الباهظة المتعلقة باستقدام عاملة من دول شرق آسيا. ويقول: «أقل كلفة لجلب عاملة هي 3500 دينار اردني ما يعادل تقريباً 5 آلاف دولار من دون احتساب تكاليف الإقامة وتصريح العمل الذي تصل رسومه إلى ما يقارب 520 ديناراً». الطالبة ميار (22 عاماً) تلفت إلى أن أسرتها اعتادت على وجود عاملة، استقدمتها أساساً لرعاية الوالدة المريضة، ولم تستطع الاستغناء عنها حتى بعد شفاء الوالدة وانتفاء سبب وجودها. وتقر أم رامي (وهي أم لطفلين)، بحاجتها إلى المساعدة المنزلية على رغم أنها لا تعمل «فهي تساعد في قضاء حاجات المنزل والتنظيف وتقوم بأعمال ومهمات أخرى»، كما تقول. أم رامي (26 عاماً) اعتادت على وجود عاملة في بيت عائلتها قبل زواجها، ولا تستطيع الاستغناء عن خدماتها حالياً. وعلى رغم ان الازمة الاقتصادية ضربت معظم القطاعات في المملكة، إلا ان المواطن الاردني غير قادر بعد على اعادة التوازن الى اوضاعه. فقد ارتفعت الاسعار أكثر من دخله، وصارت أسر كثيرة دخلت عاملة المنزل الى مكونات حياتها لا تقوى على دفع رواتب العاملات أو تلبية حاجاتهن الحياتية، ما احدث فوضى كبيرة في تنظيم قطاع العمل المنزلي وأربك الدولة الاردنية التي اصبحت هدفاً لمنظمات حقوق الانسان. وكانت انتهاكات خطيرة وقعت أخيراً وتحدث عنها تقرير وزارة الخارجية الاميركية السنوي لحقوق الانسان الذي يؤكد وقوع عمليات إتجار بالبشر في المملكة، من خلال استخدام العاملات الهاربات من البيوت ويعملن بها في شبكات دعارة لحساب متنفذين. ويؤكد تقرير صدر أخيراً عن منظمة «هيومن رايتس ووتش» أعدّه الباحث كريستوف ويلكي، أن «ليس متاحاً لعاملات المنازل أي قنوات أو آليات يلجأن إليها لتسوية الإساءات، وغالبية العاملات غير قادرات على الاتصال إلا بمكاتب العمل، التي كثيراً ما تجبر الهاربات منهن على العمل لدى آخرين، ولا تقوم بحل مشكلاتهن مع أصحاب العمل القدامى. بعضهن هرب وأصبح يعمل بدوام جزئي وفي شكل مستقل، عادة من دون تصاريح إقامة أو عمل، فيما تسعى أخريات للاحتماء بسفارات بلادهن». ووفق التقرير نفسه، هناك خطوط ساخنة تابعة لوزارة العمل، ولكنها خاصة بالإتجار بالبشر. أما ما يخص العاملات من خطوط، فإما غير معروف أو لا يعمل. ولجأت وزارة العمل الاردنية أخيراً الى اصدار تعليمات تلزم الكفلاء بفتح حساب مصرفي للعاملات قبل إصدار تصريح العمل لضمان تسديد رواتبهن من جانب اصحاب العمل، اضافة الى رفع رواتبهن الى مستويات خيالية تصل الى 300 دولار وإلزامهم بها، اضافة الى رفع بدل الاقامات الى 500 دينار اردني. وكانت دراسة عمالية اردنية اكدت وجود «ارتباط واضح» بين هروب العاملات والانتهاكات الواقعة عليهن من قبيل الاستغلال الاقتصادي والعمل الجبري وإساءة معاملتهن وحرمانهن من حقهن في اختيار العمل بحرية، ومن حقهن في الإقامة وتغيير العمل. وأكدت الدراسة، التي أعدها «مركز عدالة لدراسات حقوق الإنسان» نشرت نتائجها، أن عاملات المنازل في الأردن يعانين من ظروف معيشية «غير ملائمة»، نظراً الى «طول ساعات العمل وعدم وجود فترة راحة وحجز جوازات السفر والاعتداءات اللفظية والجسدية». وانتقدت الدراسة التي أعدّها مدير وحدة شكاوى العاملات في مركز عدالة المحامي حسين العمري «فشل» السياسات التشريعية والتدابير التنفيذية في الحد من الانتهاكات والممارسات التي تقع على العاملة والتي تساهم في شكل كبير في هروبها. وبلغ عدد عاملات المنازل في الأردن، الحاصلات على تصريح عمل وإذن اقامة، وفق إحصاءات وزارة العمل 49 ألف عاملة، فيما تقدر الوزارة عدد العاملات اللواتي لم يحصلن على تصريح عمل أو إذن إقامة ب20 ألفاً. ولا تتوافر إحصاءات لدى الوزارة عن أعداد العاملات الهاربات وجنسياتهن، على رغم أنها صاحبة الولاية العامة على العمال الاجانب، وكل ما يتعلق بهم ومنازعاتهم. لكن إحصاءات وزارة الداخلية تشير إلى أن عدد الهاربات «ازداد» في شكل ملحوظ، وبلغ 3500 عاملة في الأعوام الخمسة الأخيرة. في المقابل، يرى أصحاب العمل أن افتقاد العاملة حياتها الأسرية وشوقها الى أطفالها هما الدافع إلى هروبها.