يُرشدنا علم الاجتماع الكلاسيكي إلى حاجة الفرد للجماعة وانضوائه تحت حماها ومن ثم خروجه منها. وفي العالم المعاصر حيث فرضت الشبكات الرقمية نفسها، عاد التفكير في كيفية إدماج الفرد مجدداً في الجماعة، ولكن هذه المرّة تحت مسمى «الشبكة الذكيّة»، وذلك للحدّ من الإفراط في استهلاك الأفراد للموارد، ولا سيَما الطاقة. وتجهد شركات التكنولوجيا في تقديم تصوّرات عن مدن ذكية، تتحكم في الإنتاج والاستهلاك في آن. ويأتي المقترح من اليابان التي تتجه حاضراً إلى إحداث انقلاب في ممارسات سكان مدينة ليون الفرنسية الشهيرة، في مجال الطاقة. ثمة نموذج عن ذلك جارٍ تطبيقه في الحي المُسمى «الملتقى» Confluence الواقع في شبه جزيرة في ليون (بين نهري الرون والسون)، على يد شركة يابانية في الطاقة اسمها «نيو إنرجي أند إندستريال تكنولوجي ديفيلوبمانت أورغانايزيشن»New Energy and Industrial Technology Development Organization ، واختصاراً «نيدو» NEDO. ويُنظَر إلى «نيدو» باعتبارها وكالة عمومية داعمة للابتكار، كما أنها تعمل بالتنسيق مع وزارة البيئة اليابانية. واختارت «نيدو» حي «المُلتقى» في ليون ليكون الموضع الأول لاختبار مفهوم «الشبكة الذكيّة للطاقة» في أوروبا. دخل المشروع في حال مخاض منذ قرابة السنتين. وجرى الإعلان الرسمي عنه في 15 كانون الأول (ديسمبر) 2011 الفائت، عبر توقيع اتفاقية تعاقد مع «المتّحد الحضري لليون الكبرى». وبموجب الاتفاقية، تقدّم مؤسسة «نيدو» اليابانية تمويلاً بقرابة 50 مليون يورو، كاستثمار ضروري خلال السنوات الأربع القادمة. وتدير شركة «توشيبا» إدارة هذا «الكونسرتيوم» الياباني، الذي يجهز 150 هكتاراً من هذه التكنولوجيا الجديدة. وبرّر هيديو هاتو رئيس مؤسسة «نيدو» اختيار الموقع الفرنسي بقوله: «هذه المنطقة الصناعية القديمة هي في خضم عملية إعادة تغيير وتحويل. وفي وقت سابق، حصلت هذه المنطقة على صفتي «حي بيئي» و»حي مستدام»، من قِبل «الصندوق العالمي للطبيعة» Wild World Fund. ومع مشروع «المتّحدات الذكية»، يطمح «حي الملتقى» في ليون إلى أن يصبح الواجهة للنموذج الذي يمكن أن تصير عليه تجمّعات سكنية أخرى، كي تتحكّم في استهلاكها للطاقة. ويوضح رئيس البلدية جيرار كولومب، بأنه يجب ألا يستهلك هذا الحي في 2025 أكثر مما يستهلكه راهناً، على رغم أن الحي سيضاعف من مساحة مركزه، كما سيزيد عدد ساكنيه. أركان أربعة للذكاء الاجتماعي يستند المشروع الياباني إلى أربعة أركان. يقتضي الأول بناء مساكن ذات «طاقة إيجابية». وتمتلك الشركة تخطيطاً لمبانٍ نموذجية في مجال فاعلية الطاقة والطاقات المتجددة، يجري بناؤها على مساحة 12 ألف متر مربع، وتتضمن مكاتب ومساكن وأبنية تجارية. وهكذا تختبر الشركة مفهوم «التكامل في الاستخدام». ومثلاً، في عطلة نهاية الأسبوع يجري تحويل الطاقة الفائضة في المكاتب نحو المساكن. كما تستخدم البنية الإلكترونية التحتية من طرف المجموعة الكبيرة (أو الجماعة) من أجل الحد من الهدر. ويجري استبدال الأجهزة الضرورية للإدارة (طابعات، آلات تصوير...ألخ) التي تحوزها كل شركة، بتجهيزات مشتركة قليلة الاستهلاك. كما تُدار شبكة رقمية الهاتف بطريقة مركزية. وفق الركن الثاني، يكون للشركات حق الوصول إلى فناء كبير تتجمع فيه السيارات الكهربائية الجاهزة للاستخدام الفردي. وقد وضعت تصاميم هذا النوع من المركبات شركتا «بيجو» الفرنسية و»ميتسوبيشي» اليابانية. وتُشحن السيّارات من ألواح تحوّل طاقة الشمس إلى كهرباء بصورة مباشرة، سوف تُثبّت على سطوح الحي. ومع حلول عام 2013، يفترض أن تمثّل هذه السيّارات ثلث المركبات في هذا الحي النموذجي. ووفقاً للركن الثالث، يتحكّم السكان باستهلاكهم، بفضل «صناديق الطاقة»، وظيفتها تقديم رسوم بيانية عن الاستهلاك، تُظهر الكلفة وتشير إلى الاقتراب من بلوغ نقطة القمة في الاستهلاك، وكذلك تُصدِر توصيات للاقتصاد في الطاقة. أخيراً، توضع مجمل هذه المعلومات في شبكة رقمية ذكية من أجل إمكان التوقع والإدارة الشاملة لحاجات الحي. ويتوقع أن تتيح هذه الشبكة الرقمية مراقبة وجهة استخدام الاستهلاك. إذ لا فائدة من نشر شبكة كهربائية ذكية إذا لم يُراقب المستفيدون منها استهلاكهم. وبالاختصار، يتحدّد النفع من هذه «المُتّحدات الذكية» في ضبط إنتاج الكهرباء في ساعات الذروة، وتجنّب اللجوء إلى المنشآت الأكثر تلويثاً، وفق توضيح من أحد المسؤولين الإداريين في مدينة ليون الكبرى. وفي المحصلة، فإن نجاح المشروع رهن أيضاً بمساندة السكان له ومشاركتهم في تنفيذه. عفيف عثمان