امتلك الفيلسوف والشاعر جبران خليل جبران (1883-1931) جرأة طرح الأسئلة حول الإنسان والحياة والوجود والكون والدين؛ فقادته نفسه التّوّاقة لمطارحة الفكر، وقدح العقل، والتنقيب عن الجواهر والمكنونات، وتقديم الأجوبة، ومقاومة الكهنوت والوصاية على سلطان العقل، إلى أن يقرأ ويتعمّق في ثقافات متعددة، وآداب متباينة، وأديان مختلفة، وفلسفات يضرب بعضها رقاب بعض؛ فاهتدى إلى حقيقة الحقائق، وجوهر العبادة والدين، من منطلق التعايش، والتسامح، ونبذ العنف والعنصرية، بين الناس على هذه البسيطة. وخلال رحلته العامرة بالكشوف المعرفية والثقافية توسّع جبران في الحديث عن الحرية والسلام، بين الأفراد والشعوب، فثار على تقاليد مجتمعه، ونُظُمه التشريعية، وأوضاعه الاقتصادية، وآثاره الجائرة على الأفراد، وطالب بحريةٍ لا تحدها حدود، ولا تقيدها قيود، وقد انبثقت آراؤه التحررية من طبيعة الحياة الاجتماعية والسياسية المختلفة، التي كانت تسود البلاد في ذلك الحين. ولعله عقد مقارنة أثناء تجواله في البلاد الأوروبية والأميركية، بين ما كانت عليه بلاده والبلاد العربية من كبت وتخلف ورجعية، وبين ما تتمتع به تلك البلاد من تقدم، في مجالات الفكر والعلم والأدب، وأدرك بعقله الكبير أن أصل هذا التقدم يرجع إلى الحرية الواسعة في الغرب، فطالب بحرية العبادة، كي لا يتقيّد بالكهان ونزواتهم، واستغلالهم، واحتكارهم تفسير الإنجيل، كما يقول أحمد حسين حافظ في كتابه «إسلاميات جبران... النصوص الكاملة دراسة مقارنة»، الصادر أخيراً عن «مكتبة الشريف ماس» في القاهرة. وكان جبران مؤمناً بالله تعالى، عميق الإحساس بتلك الحكمة السرمدية التي تُدير شؤون الكون، مُعجَباً بعظمتها وقوتها وإبداعها، مستسلماً لقضائها. ولا شك في أن نشأته في بيئة متدينة في لبنان، كان لها أكبر الأثر في إيمانه بالله؛ فأُمُّه ابنة أحد الرهبان غرست في نفسه البذور الأولى للمسيحية، من محبة وتسامح. وعلى مقاعد مدرسة الحكمة تلقى الكثير من الدروس، فأدرك «الروح الكلية الأزلية الأبدية المملوءة بالجمال والمحبة»، واهتدى إلى سر الأسرار «من وراء كل شيء قوّة هي كل معرفة، وكل رحمة». وهو، وإن كان متأثراً بفلسفة نيتشه، التي تؤمن بالتناسخ في مرحلة ما، صدف عنها في مرحلة أخرى من حياته اللاهثة وراء البحث عن الحق والحقيقة. والطريف أنه كان يستشهد بالقرآن الكريم ليدلل على قدرة صنع الله، وعجائب خلقه. ثم نفض جبران عن كاهله تبعات الدين التقليدي، وأعباءه، وبدأ يقرأ في الأديان، فطالع البوذية والمسيحية والصوفية والإسلامية، فأخذ عن الإسلام روعة وفلسفة الصلاة والتنسك، فقال في كتابه «العواصف»: «لم أطلب الوحدة للصلاة والتنسك؛ لأن الصلاة، وهي أغنية القلب، تبلغ آذان الله، وإن تصاعدت ممزوجة بصياح ألوف الألوف، وأما التنسك، وهو قهر الجسد، وإماتة رغائبه، فمسألة لا مكان لها في ديني». وكتب في هذه الفترة قصة «إرَم ذات العِماد» الواردة في كتابه «البدائع والطرائف» متأثراً بآراء المتصوفة المسلمين. وتوصّل إلى أن الديانات في الشرق ظلت تجيب عن تساؤلات الناس وحيرتهم، جيلاً بعد جيل، حتى جاء الإسلام فأتمَّ ما بدأته الديانات السماوية السابقة في الإجابة عما يشغل الناس ويحيرهم». وتخيَّر مادة هذه القصة من القرآن الكريم، وجعل بطلته مسلمة تحمل اسم «آمنة» وهو اسم مستوحى من اسم والدة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، كما جعل بطل القصة مسيحياً يدعى «نجيب رحمة»، وهو يمثل جبران نفسه الساعي إلى التعمُّق في التصوف الإسلامي، وإدراك أسراره ومراميه الروحية. كما قدم لنا السيد المسيح عليه السلام بشكل إنسان، لا بصورة إله أو ملاك. والملاحظ أن كثيراً من نصائح جبران وتعاليمه التي وردت في كتابه الشهير «النبي» تحمل في مضمونها تأثراً واضحاً بتعاليم الإسلام، في القرآن الكريم، وما ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، في أحاديثه الشريفة. وكتب عن عمالقة الفكر والفلسفة الإسلامية، وكبار شعراء الصوفية، في كتابه «البدائع والطرائف»، فقال عن الإمام أبي حامد الغزالي: «بين الغزالي والقديس أوغوسطينوس رابطة نفسية، فهما مُنَظِّران متشابهان لمبدأ واحد، برغم ما بين زمانيهما ومُحيطَيهما من الاختلافات المذهبية والاجتماعية. أما ذلك المبدأ؛ فهو ميل وضعي في داخل النفس يتدرّج بصاحبه من المرئيات وظواهرها إلى المعقولات، فالفلسفة، فالإلهيات. اعتزل الغزالي الدنيا، وما كان له فيها من الرخاء والمقام الرفيع، وانفرد متصوفاً، متوغلاً في البحث عن تلك الخيوط الدقيقة التي تصل أواخر العلم بأوائل الدين، متعمقاً في التفتيش عن ذلك الإناء الخفيّ الذي تمتزج فيه مدارك الناس، واختباراتهم بعواطف الناس وأحلامهم. وهكذا فعل أوغوسطينوس قبله بخمسة أجيال. فمَن يقرأ له كتاب «الاعتراف» يرى أنه قد اتخذ الأرض ومآتيها سُلَّماً يصعد عليه نحو ضمير الوجود الأعلى. غير أنني وجدتُ الغزالي أقرب إلى جوهر الأمور، وأسرارها من القديس أوغوسطينوس، ووجدتُ في الغزالي ما يجعله حلقة ذهبية مُوَصِّلة بين الذين تقدَّموا من متصوفي الهند، والذين جاؤوا من الإلهيين». وقال عن سلطان العاشقين عمر بن الفارض: «كان شاعراً ربانياً، وكانت روحه الظمآنة تشرب من خمرة الروح، فتسكر، ثم تهيم سابحة، مُرَفرفة في عالم المحسوسات، حيث تطوف أحلام الشعراء، وميول العشاق، وأمانيّ المتصوفين. ولكن إذا وضعنا صناعة الفارض جانباً، ونظرنا إلى فنِّه المُجرد، وما وراء ذلك الفن من المظاهر النفسية وجدناه كاهناً في هيكل الفكر المطلق، أميراً في دولة الخيال الواسع، قائداً في جيش المتصوفين العظيم، ذلك الجيش السائر بعزمٍ بطيء نحو مدينة الحق، المُتغَلِّب في طريقه على صغائر الحياة وتوافهها، المُحَدِّق أبداً إلى هيبة الحياة وجلاها. ولم يتناول الفارض مواضيعه من ماجريات يومه، كما فعل المتنبي، ولم تشغله مُعَمَّيات الحياة وأسرارها كما شغلت المعري، بل كان يُغمِض عينيه عن الدنيا ليرى ما وراء الدنيا، ويُغلِق أُذُنَيه عن ضجّة الأرض؛ ليسمع أغاني اللانهاية». وأثنى على المعري، فقال: «لقد مرَّ ألف سنةٍ على عهد أبي العلاء المعري، ولكن أبا العلاء لم يزل حياً بحياة الفكرة البشرية، كانّاً بكيان الروح المطلق». وأُعجِب أيّما إعجاب بفلسفة ابن خلدون الاجتماعية الرائدة، وبحرية وانطلاقة أبي نواس الشعرية، وحُرقة وصراحة وبلاغة الخنساء العاطفية، وإنسانية وعالمية شعر مجنون ليلى. * كاتب مصري