جاء في موضوع الأسبوع الماضي أن الأوروبيين يدَّعون ان بإمكان الصين شراء أضعاف ما بحوزتهم من سندات ديون دول منطقة اليورو. وإذا فعلت الصين واشترت المزيد من سندات اليورو، فإن ذلك سيرفع قيمة السندات الأوروبية ويمكِّن الأوروبيين من التمويل بتكاليف أقل. والصينيون لا يجهلون أن أهم أسباب تباطؤ نمو قطاعهم الصناعي، أي آلة تفريخ صادراتهم، يعود بالدرجة الأولى الى الكارثة المالية التي سببها لصوص نيويورك للعالم، التي أدت إلى تراجع اقتصادي شمل معظم مناطق المعمورة بما في ذلك منطقة اليورو. وبما أن منطقة اليورو من أهم أسواق الصين، وبما ان الصين أيضاً تملك كميات ضخمة من اليورو التي تراكمت منذ سنوات، من قيمة مبيعات الصين أو صادرتها الى أوروبا ومما استثمرته في سندات اليورو حينما كانت قيمة اليورو أعلى مما هي عليه الآن، فإن لها مصلحة في شراء كميات إضافية من الديون الأوروبية حفاظاً على مستوى أدنى من قيمة اليورو التي بحوزتها منه مبالغ ضخمة، بالإضافة الى أن الصين لا ترغب في حدوث تراجع اقتصادي أو كساد في أوروبا، وهي من أهم مستوردي السلع الصينية. غير أن للصين هدفاً آخر، فهي كانت تطالب منذ سنوات ب «إصلاح» أنظمة صندوق النقد الدولي. وهذا يعيدنا ابتداء الى الشهر السابع من العام (1944) حينما صار واضحاً للحلفاء أنهم سينتصرون على دول المحور حتى لو بعد حين، كما حدث فعلاً في عام (1945)، حينما اجتمع ممثلون لأميركا وحلفائها الأوروبيين الذين كان أهمهم الانكليز والفرنسيون في مدينة صغيرة (بريتن وودز) في ولاية نيوهامبشر في الولاياتالمتحدة الأميركية. المهم في ما حصل في صيف (1944) هو الاتفاق على إنشاء صندوق دولي للتمويل الموقت تحت مسمى «صندوق النقد الدولي» أو اختصاراً (.I. M. F)، حتى وإن لم يتم افتتاحه رسمياً إلا في الشهر الثالث من عام (1946). كان يمثل بريطانيا في المؤتمر الاقتصادي الانكليزي الشهير «جون ميرند كينز» الذي لم يكن أهم علماء الاقتصاد في القرنين التاسع عشر والعشرين فحسب، بل إن كينز أيضاً هو الاقتصادي الذي اعتبره أستاذ جامعة شيكاغو الأسطورةُ ميلتون فريدمان، أهمَّ عالم اقتصاد بعد مؤسسه الحقيقي «جون آدامز». كان ملخص رأي كينز إيجاد صندوق تسمح أنظمته بحل أزمات الائتمان الدولية مهما كان حجمها وبتكاليف متدنية. أخشى ما كان يخشاه كينز هو الكساد، الذي يؤدي الى بطالة الملايين فيخلق البيئة التي تترعرع فيها أحزاب التطرف الى اليمين، كما حدث في ألمانيا وايطاليا، أو الى اليسار كما حصل في روسيا. أراد كينز دفع عجلة النمو وتفادي الركود والكساد بأي ثمن. إما ممثل الولاياتالمتحدة الأميركية، فكان الاقتصادي ووكيل وزارة الخزانة الأميركية حينئذ هيري دكستر وايت، الذي هاجر والداه اليهوديان قبل ميلاده الى مدينة بوسطن من «ليثوينيا» في أواخر القرن التاسع عشر، وتواترت الروايات بعد مماته، انه كان جاسوساً سوفياتياً. المهم في الأمر ان الأميركي «وايت» كان هو الذي كتب مسوّدة تأسيس «صندوق النقد الدولي» التي انطلقت من مبدأ الدوافع الذاتية للدول الأعضاء لإيجاد صندوق تمويل يساعد في حل أزمات التمويل أو الائتمان الموقتة. وبعد جدل فني وحوار مستفيض، سيطرت وجهة النظر الأميركية. الذي حصل هو تكوين منشأة دولية تساهم في تكوين رأس مالها الدول التي ترغب، وتحدد قوة صوت كل منها في اتخاذ القرار نسبة ما دفعته من رأس مال الصندوق. وقد درج الصندوق منذ الخمسينيات على تقديم قروض بتكاليف ميسرة الى الدول النامية التي تلتزم شروط الصندوق بالنسبة الى سياستها المالية والى حد أقل سياساتها النقدية. الأرجح، وليس المؤكد، لأن الصينيين لم يذكروا كل التفاصيل، أنّ غرض الحكومة الصينية من المطالبة بإصلاح «أنظمة» صندوق النقد (والإصلاح هنا يعني التغيير لما هو أفضل للصينيين)، بما في ذلك العودة الى وجهة نظر كينز، والتي ملخصها جعل «الصندوق» مصدراً لا ينضب للسيولة الدولية التي تساعد إجمالاً في حل الأزمات الائتمانية الضخمة التي يصعب على صندوق النقد الدولي حالياً حلها، على الأقل حينما تكون في مستوى أزمة اليورو الائتمانية في الوقت الحاضر. أياً كان غرض الصين من المطالبة بما أسمته إصلاح نظام الصندوق الدولي، فإن أي إصلاح لا يكفي بحد ذاته لحل مشكلات الائتمان الدولية إذا كانت هذه الأزمات تعود لأسباب هيكلية، كما هو الحال بالنسبة الى بعض دول عملة اليورو التي تتفاوت درجة تقدمها ومستويات كفاءة إنتاجية قواها البشرية، عن زميلاتها الأقوى، كهولندا وألمانيا. غير انه لصندوق النقد الدولي نقاد من غير الاقتصاديين الغربيين المحترفين، قد يكون أهمهم أستاذ الاقتصاد في جامعة كولومبيا في نيويورك «جوزيف ستيغلتز» الفائز بجائزة نوبل في الاقتصاد، كما سيأتي تفصيله في مناسبة قادمة إن شاء الله. * أكاديمي سعودي.