إذا كان 2011 عام المخاض العسير، فإنه يمكن الجزم بأن عام 2012 سيكون عام تقرير المصير ليس في الدول العربية فحسب، بل في العالم كله سياسياً واقتصادياً وأمنياً. فبعد تسونامي ما سمي بالربيع العربي الذي قلب الأوضاع العربية رأساً على عقب، وضرب المعادلات وخالف كل التحليلات والتكهنات والتوقعات، بقي كل شيء معلقاً: الحكم والنظام والشعب والاقتصاد والمصير. فمهما قيل عن الربيع وما نظم من قصائد وما أعلن من شعارات وما اتخذ من مواقف فإن النتائج المرجوة لم تصل بعد إلى درجة القبول ولم تلبّ بعد الحدود الدنيا من تطلعات الشعوب ورغباتها. بل يمكن القول إن القلق على المستقبل هو سيد الأحكام ومعه خوف من المستقبل وسلسلة من الهواجس والهموم والمخاوف من هيمنة هذا الفريق أو ذاك أو استغلال اتجاه ما للظروف ليقفز على السلطة ويحتكر الإمساك بزمام الأمور ويتحكم برقاب العباد الذين تخلصوا من ديكتاتورية وأنظمة قائمة ليقعوا في شباك ديكتاتورية أخرى قد تكون أشد قساوة وأكثر قدرة على فرض ما تريد بالقوة. والقضية باختصار لا تتعلق بصعود التيارات الإسلامية أو الأصولية بل بإجهاض جنين الديموقراطية الذي تطمح الأكثرية الشعبية إلى ولادته سليماً معافى كامل الأوصاف لا تشويه فيه ولا إعاقة. فهذه التيارات لها امتداداتها في الشارع، ووسط الجماهير، وأكثرها مؤمن ومتديّن على امتداد الوطن العربي. هذه التيارات تستطيع كسب المعركة في صناديق الاقتراع وفي أي مخرج للمأزق القائم بعد ثورات الربيع لا لأنها تملك أكثرية عددية بل لأنها الأقوى والأكثر تنظيماً وانضباطاً في وجه أحزاب متعددة وضعيفة ومشرذمة وقوى لها شعبية لكنها تفتقر إلى التنظيم والقدرة على خوض غمار معركة متكافئة. فالأحزاب الإسلامية لا تستطيع تأمين غالبية مطلقة تمكنها من الحكم بلا منازع، ولهذا فإنها ستضطر إلى التحالف مع أحزاب أخرى كما جرى في تونس لتضمن الفترة الانتقالية وبعدها قد تثبت أقدامها للتفرد بالسلطة وتفرض سياساتها وأدبياتها على الشعب إن لم تتعرض لانتكاسات وانشقاقات وتتغلب فئات أكثر تطرفاً وتشدداً على الفئات المعتدلة، أو أن توحد القوى الأخرى صفوفها وتتحالف في وجهها بعد التخويف من توجهاتها والتحذير من ديكتاتورية أصولية تحل محل الديكتاتورية الفردية والحزبية. ولا يمكن إغفال العوامل الخارجية والمخططات الرامية إلى غض الطرف عن جماعة «الإخوان المسلمين» والاتجاهات الإسلامية بداعي أنها القادرة على الإمساك بزمام الأمور في هذه المرحلة للقضاء نهائياً على «القاعدة» وأخواتها وضرب القوى المتشددة والمتبنية لدعوات العنف وضرب المصالح الغربية على اعتبار أن تجربة تركيا في عهد حزب «العدالة والتنمية» قد تصلح لأن تكون قدوة يحتذى بها في العالم العربي. وهذا جانب واحد من مشهد الأوضاع بعد «الربيع» الذي لم يثمر بعد أزهاراً وثماراً وسط علامات استفهام كثيرة... وهذه هي معضلة واحدة من المعضلات الكبرى التي تعاني منها الدول العربية ككل، والدول التي وقعت فيها زلازل هذا «الربيع» وعادت إلى نقطة الصفر على صعيد المؤسسات وأعمدة النظام والمفاهيم وإعادة تركيب الأوضاع وإنقاذ ما يمكن إنقاذه. فالمعضلة الكبرى، إضافة إلى تلك السياسية والأمنية والاجتماعية، تكمن في الوضع الاقتصادي واستنزاف الثروات والطاقات أولاً عن طريق «مؤسسات الفساد» المتمكنة في الأرض العربية والراسخة في مفاعيلها التدميرية ثم نتيجة للتظاهرات والاحتجاجات والمعارك التي قضت على ما تبقى من بنى تحتية اقتصادية ومالية ووسائل إنتاج ومشاريع واستثمارات داخلية وعربية وأجنبية. ومن هنا فإن عنوان «تقرير المصير» هو الأفضل والأكثر تعبيراً عن توقعات عام 2012 مع التأكيد على احترام حق الشعوب في التعبير عن رأيها ومواقفها والتزامها بالقضاء على الفساد والعيش بكرامة وعزة في أجواء الحرية والعدالة والمساواة والديموقراطية، وحقها في العيش بأمن وأمان واطمئنان إلى مستقبل أجيالها وإيجاد عمل شريف تحت عنوان تكافؤ الفرص والحصول على لقمة العيش بلا منّة ولا مكرمة من أحد مهما علا شأنه. ولا شك أن الدول العربية ستقف هذا العام على مفترق طرق بين الانهيار والانطلاق نحو غد مشرق تتحقق فيه الآمال والتطلعات. فاستمرار حالة التخبط والضعف والتهاون وتصاعد التحركات وتزايد الخلافات والانشقاقات وحالات التناحر والتنابذ والصراع على السلطة وترك الحبل على غاربه للغوغاء تعني حتماً انهيار الهيكل على رؤوس الجميع، أما إذا تم توحيد الصفوف وتغليب الحكمة والتعقل وتحقيق الديموقراطية والقبول بالآخر وبتداول السلطة وقيام حكومة منتخبة ومعارضة ديموقراطية داخل المؤسسات فإن هذا يعني البدء برحلة الألف ميل على طريق الاستقرار والبناء والأمن والأمان. وهكذا يقف الجميع على حد السيف لأن استحقاقات عام 2012 كثيرة ومتشعبة. فتونس خطت خطواتها الأولى في طريق الديموقراطية لكنها ما زالت تحبو وتتهددها مخاطر كبرى من بينها احتدام الصراع بين حزب النهضة الإسلامي والأحزاب والتيارات الليبرالية والعلمانية. أما مصر فحدث عنها ولا حرج لأن الوضع فيها أكثر تعقيداً ولن يبصر الفرح النور حتى بعد إجراء انتخابات المجلس التأسيسي، فالصراع قائم بين جيش وتيارات شبابية وسياسية وبين «الإخوان المسلمين» بتياراتهم المتشابكة، والسلفيين وطموحاتهم بالسيطرة التامة والأقباط ومخاوفهم المبررة والأحزاب الأخرى التي لا يمكن لها أن تنجح إلا بإقامة تحالفات وائتلافات وتنازلات عن الأنانيات والمصالح الشخصية. وفوق كل ذلك لا بد من جهود كبرى لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الاقتصاد المتهاوي والمهدد للأمن وللقمة عيش المواطنين وفرص عملهم. واليمن غير السعيد أمام استحقاق تجربة فريدة قد تكون الأولى في تاريخه وهو العيش بديموقراطية وحرية وعدالة بعد سنوات الانقلابات والثورات والحروب. فبعد اتفاق المصالحة يأتي تقرير المصير... والمخاوف متعددة من انتكاسات وتراجع عن التعهدات واستمرار الاحتجاجات وصولاً إلى حرب أهلية أو تقسيم... وفي مطلع العام يكرم الشعب أو يهان ويتبين الخيط الأسود من الخيط الأبيض في مجال تنفيذ الاتفاق الذي رعته المملكة العربية السعودية ومجلس التعاون الخليجي وأولى خطواته رحيل الرئيس علي صالح ونظامه نهائياً. أما في سورية فإن الوضع يبدو أكثر تعقيداً بعد 10 أشهر من الاضطرابات والهموم والكر والفر فيما الاقتصاد الوطني يتعرض لأخطر أزمة في تاريخه. ومهما كانت نتائج الأحداث فإن تقرير المصير قائم فيها أيضاً سواء أجريت الانتخابات المقررة في آذار في موعدها أو تم التوصل إلى صيغة نهائية تنهي حالة الضياع وتعيد الأمن والأمان للشعب الأبي. وتقرير المصير ينطبق أيضاً على المغرب الذي عاش تجربة ديموقراطية مميزة في الانتخابات الأخيرة، لكن الحكم على التنفيذ والسير بخطى حثيثة ثابتة نحو الإصلاح ووقف الاحتجاجات وبخاصة أن العرش المغربي هو الحامي لوحدة البلاد وعامل الاستقرار الأول. والطريق موصول للدول الأخرى من الأردن إلى دول الخليج التي تعهدت القيام بخطوات إصلاحية سريعة وعلى رأسها المملكة العربية السعودية حيث كان خادم الحرمين الشريفين سباقاً إلى الإصلاح والدعوة لانتخابات محلية تليها لمجلس الشورى ومنح المرأة حقوقها وتلبية مطالب الشعب بالتنمية والبناء وتأمين فرص العمل. أما العراق فستكون له الكلمة الفصل في مسيرة تقرير المصير بعد إكمال انسحاب قوات الاحتلال الأميركي والبدء بإقامة المؤسسات الديموقراطية. فبيد العراقيين الآن تحديد مصيرهم وإثبات قدرتهم على الحفاظ على وحدة وطنهم وأمنهم وأمانهم والانطلاق نحو غد أفضل بعد سنوات الديكتاتورية والظلم والاستبداد والاحتلال والفوضى والعنف، وإلا فإن البديل سيكون كارثياً يبدأ بالتقسيم وتكتمل فصوله بحروب أهلية وطائفية ومذهبية. والمؤشرات الأخيرة تعطي صورة قاتمة عن المستقبل واحتمال الانجرار نحو أتون حرب أهلية مدمّرة للجميع. ويبقى لبنان رهينة في الوسط نتيجة تأثره بمحيطه العربي والإقليمي والدولي. وهو أيضاً سيمر بامتحان تقرير المصير في عام 2012 إن بالنسبة إلى قطوع تمويل المحكمة الدولية وقراراتها وأحكامها أو على صعيد الوحدة الوطنية ومنع الحروب المذهبية التي تطل برأسها بين حين وآخر أو بالنسبة إلى وضعه الأمني والاقتصادي الدقيق. وفي نطاق أوسع لا بد أن يتأثر العالم بما يجري في المنطقة كما تتأثر القضية الفلسطينية إن في الصراع مع العدو ومطامعه وخطط التهويد الجارية على قدم وساق أو على صعيد المصالحة الفلسطينية بين «فتح» و»حماس». وينتظر أن يشهد عام 2012 إما تكريس الوحدة بين قطاع غزة والضفة الغربية وتقرير المصير بانتخابات رئاسية وتشريعية أو الضياع وإضاعة كل الفرص المتاحة. والعالم أيضاً يقرر مصيره عام 2012 بالنسبة إلى الأزمة الاقتصادية الخطيرة أو عبر انتخابات رئاسية في فرنسا وروسيا والولايات المتحدة وغيرها والتي ستكون لنتائجها انعكاسات كبرى على الأزمات والأوضاع سلباً أو إيجاباً. ومن دون تعليق الآمال الكبرى بتحقيق ما تصبو إليه الشعوب فإن عام 2012 لا بد أن يرسم آفاق المستقبل لأن المأزق يسود العالم والمنطقة والأخطار تهب من كل حدب وصوب... وفي الوقت نفسه فإن علينا أن ننتظر تقرير مصير الشعوب... وأن نثق بها ونتفاءل وندعو الله أن يكون العام الجديد عام خير وبركة عليها وعليكم وعلينا، وكل عام وأنتم بخير! * كاتب عربي