انتقى المؤرخ البريطاني ريتشارد اوفري، خمسين حدثاً قال ان مضاعفاتها الاقتصادية وتداعياتها السياسية بدلت طبيعة الانظمة وغيرت مصائر الشعوب. وخلص اوفري، في كتابه «التاريخ الكامل للعالم»، الى نتيجة مفادها ان الحروب والثورات وحدها قادرة على إحداث المتغيرات العميقة في حركة التاريخ. وأعطى الثورة الفرنسية (1789) مثالاً على صحة نظريته، كونها هدمت أسس الملكية التقليدية، وكرست المطالب المتعلقة بحقوق الانسان كالمساواة والحريات. كذلك قدم هذا المؤرخ ثورة تشرين الاول (اكتوبر) في روسيا (1917) كتجربة سياسية – اجتماعية قوضت نفوذ الكنيسة الارثوذكسية ودمرت سلطة القياصرة، ونشرت الماركسية الملحدة في نصف الكرة الارضية لمدة سبعين سنة. في ضوء هذه النظرية، يبدو «الربيع العربي» مصدراً لسلسلة أحداث درامية لم تبلغ نهايتها بعد، خصوصاً عقب تعثر الانتفاضات الشعبية في اليمن وسورية. علماً ان التغيير في تونس وليبيا ومصر، اقتصر على هدم انظمة الحكام السابقين، من دون ان ينجح في تثبيت انظمة بديلة. واعترف الرئيس التونسي المنصف المرزوقي، بأن سنة 2012 ستكون اكثر صعوبة وتعقيداً لاقتصاد بلاده، محذراً من استمرار الاعتصامات المطالبة بتحسين ظروف العمل. وقال في مؤتمر نظمه الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة، ان هناك اكثر من 120 شركة اجنبية غادرت البلاد نهائياً. لذلك، فهو يرى ان تأمين 800 الف وظيفة خلال سنة 2012 سيكون من اولويات حكومة حمادي الجبالي. في مصر، شكا رئيس الوزراء الدكتور كمال الجنزوري، من اهمال الدول الخليجية الغنية، ومن تجاهل الدول الثماني الكبار للمطالب الملحّة التي عرضها. واعترف بأن التجاوب لم يكن على مستوى التعهدات. وأوضح ان العرب وعدوا بدعم لا يقل عن عشرة بلايين دولار، يُقدم بعضها في صورة مساعدات، والبعض الآخر في شكل قروض ميسرة. لكن الدولة لم تحصل إلا على بليون دولار فقط. واعترض الجنزوري على التباطؤ الذي لمسه لدى الادارة الاميركية التي وعدت مصر بدعم يتجاوز البليوني دولاراً، بهدف اعانة المشاريع الصغيرة. والمؤكد ان التأخير المتعمد جاء نتيجة حتمية لانتصار الاسلاميين وحلفائهم السلفيين. لهذا السبب ارجأت واشنطن تحويل المبلغ بانتظار تبلور الصورة الحقيقية لطبيعة النظام. والى أن تنجلي هذه الصورة يسعى الجنزوري للحصول على مساهمة الدول الخليجية في دعم الاقتصاد والموازنة العامة. خصوصاً بعد خروج اكثر من تسعة بلايين دولار خلال الشهور الاربعة الماضية. يوم الثلثاء الماضي باشر وفد مراقبي الجامعة العربية مهمته في مدينة حمص. وزعمت المعارضة ان عدد المتظاهرين تعدى السبعين ألف متظاهر كي يثبتوا رفضهم للنظام الذي يقاتلونه منذ تسعة شهور. علماً ان رئيس المجلس الوطني السوري المعارض برهان غليون، اشاد بمبادرة الجامعة، لكنه وصفها بالسلطة العاجزة عن التنفيذ على ارض الواقع. لذلك طالب مجلس الامن الدولي بضرورة تبني الخطة العربية بسبب قدرته على تطبيق توصياتها. وقوبل هذا الطرح بالانتقاد الشديد، حتى بالنسبة الى روسيا التي اعتبرت توقيع دمشق بروتوكول بعثة المراقبين، مؤشراً ايجابياً. والسبب ان موسكو مضطرة الى استخدام حق «الفيتو» في حال تعرضت صديقتها دمشق لقرار شبيه بالقرار الذي اتخذه مجلس الامن ضد نظام القذافي. وبما ان فلاديمير بوتين يسعى جاهداً خلال مرحلة الانتخابات، لئلا يغضب الولاياتالمتحدة ودول الاتحاد الاوروبي، فإنه مضطر الى تأييد الخطة العربية. ومع وصول بعثة الجامعة العربية الى سورية، صحت دمشق على صوت تفجيرين استهدفا مقرين أمنيين وأديا الى مقتل 44 مدنياً. وزعمت المعارضة ان النظام قام بتدبيرهما لإقناع الجامعة العربية بأنه يخوض حرباً اهلية ضد جماعات ارهابية. وقال الوزير وليد المعلم ان الارهابيين قتلوا اكثر من ألفي جندي وشرطي، وأن المجلس السوري المعارض يضم هذا الرقم الى ضحاياه. وعليه ترى دمشق ان مهمة البعثة ليست إلا مضيعه للوقت. حدث اثناء زيارة بعثة الجامعة العربية الى حمص، أن التقطت عدسات مصوري التلفزيون، مشهداً من الحوار الساخن الذي دار بين معارض ورئيس البعثة السوداني. وكان المعارض السوري يعترض على حصر مهمة المراقبين بشوارع غادرتها الدبابات. في حين راح رئيس البعثة يطالبه بضرورة فتح حوار مع المسؤولين. وكان الشاب المعارض يستنكر هذا المنطق بحجة ان الحوار لا يتم مع نظام يقتل الشعب. يقول المراسلون الاجانب الذي التقوا الرئيس بشار الاسد، انه يعيش هاجس الخيارات المرفوضة التي وضعها الغربيون امامه، إما ان تختار نموذج زين العابدين وتعلن تنازلك عن الحكم وتلجأ الى روسيا او ايران، وإما ان تواجه مصير حسني مبارك وتقبل بمحاكمة علنية... وإما ان تتحدى المعارضة وتستمر في المقاومة مثلما فعل معمر القذافي! وبررت صحيفة «ذي غارديان» اللندنية للرئيس الاسد رفضه الخيارات الثلاثة كونها تؤدي الى نهاية نظام أقامه والده قبل اربعين سنة. وفي تقدير كاتب المقالة جوناثان ستيل، يراهن الاسد على الوقت، وعلى ابراز الخطأ الذي تُضخمه واشنطن وفرنسا وتركيا، من ان رحيله هو الحل الممكن. بينما يرى هو ان الحل يكمن في فتح نقاش حول عملية انتقالية للسلطة سليمة الطابع، تحول دون سقوط سورية في حرب اهلية طويلة مثلما حدث في لبنان. وفي اللقاءات السابقة التي اجراها الاسد مع المعتدلين من زعماء المعارضة، تبين له ان إلغاء المادة الثامنة من الدستور التي تمنح «حزب البعث» حق ادارة البلاد... تتصدر اولويات القوى المعارضة. وحجتها ان هذه المادة تخالف المبادئ الديموقراطية والتعددية الحزبية وكل ما يفرضه «الربيع العربي» من تغيير. كذلك طلبت المعارضة حق المشاركة في كتابة الدستور الذي تعمل لجنة من الخبراء على إعداده. ويتردد في دمشق ان المسودة الجاهزة تتحدث عن ضمانات للأقلية العلوية، أسوة بالدستور اللبناني والدستور الهندي الذي اعطى المسلمين منصب رئاسة الجمهورية. كل هذا بهدف تطمينهم من طغيان الغالبية السنية التي تُمنح منصب رئيس الحكومة. ويُشاع ايضاً ان منصب رئيس مجلس النواب سيعطى للأكراد. في سنة 2012 سيحاول المجلس الوطني السوري المعارض، الحصول على الاعتراف به كممثل شرعي للنظام. كما يسعى الى اقناع الحكومة التركية بضرورة منحه منطقة آمنة كي يمارس منها جيش سورية الحر بقيادة العقيد رياض الاسعد، نشاطه، مثلما حدث في ليبيا. وربما تتصور تركيا ان هذه الخطوة تكون مقدمة لتدويل الازمة السورية، على ان تفضي الى حل مقبول كالحل الذي اتخذته القمم العربية اثناء حرب لبنان، عبر ارسال قوات الردع العربية. اضافة الى اعمال العنف، تعاني سورية من تحديات اقتصادية بسبب الحصار الدولي ومغادرة عدد من الشركات الاجنبية، تلك المستثمرة في قطاع النفط والغاز. خصوصاً ان حظر بيع النفط السوري من جانب الاتحاد الاوروبي، حرم دمشق من السيولة بالعملات الاجنبية، كما حرمها من امكانات شراء سلع خارجية. وهكذا تحول لبنان الى نافذة اقتصادية – تجارية لسورية بحيث ساعد دوره على تخفيف وطأة العقوبات العربية والدولية المفروضة عليها. ولكن عملية الالتفاف على العقوبات، لم تحرك الاقتصاد السوري المجمد، وتدفعه الى العمل بنسبة تزيد على الثلاثين في المئة من طاقته الانتاجية. وكان من الطبيعي ان يؤثر هذا التراجع الملحوظ في مختلف المصادر بحيث أقفلت بعض المصانع، واضطرت مؤسسات عدة الى الاستغناء عن موظفيها، وانهار القطاع السياحي والفندقي بصورة غير مألوفة. ومثل هذه العوامل ساهمت في تدهور سعر الليرة بنسبة 25 في المئة. صحيح ان عدم التزام لبنان والاردن والعراق تطبيق العقوبات، ساعد النظام على تخفيف وطأة العقوبات... لكن الصحيح ايضاً ان قرار تجميد التعامل مع المصرف المركزي ووقف حركة الطيران الى الدول العربية، شجعا تركيا على إلغاء كل الصفقات التجارية. في هذه الحال، يرى المراقبون ان تضييق الخناق على سورية قد يضطرها الى إحداث اختراق على الجبهة اللبنانية او الجبهة الفلسطينية، مقلدة بذلك حليفتها ايران التي هددت بإقفال مضيق هرمز، اذا ما واصلت الدول الكبرى منعها من تصدير نفطها. يقول الخبراء ان اهمية منطقة الشرق الاوسط حددتها اربعة ممرات استراتيجية: المضائق التركية، وقناة السويس ومضيق هرمز ومضيق باب المندب. واللافت ان كل هذه المعابر الحيوية تسيطر عليها بسبب «الربيع العربي»، حكومات اسلامية، ولو من جهة واحدة. وتعتبر شركات النقل ان اربعين في المئة من النفط يمر في مضيق هرمز. في حين يتمتع مضيق باب المندب بأهمية مماثلة. وعندما فازت في المغرب حكومة اسلامية، اعربت الدول الاوروبية وإسرائيل عن قلقها من هذا التحول. والسبب انه للمرة الاولى منذ ألف سنة يصبح مضيق جبل طارق، الذي يصل البحر المتوسط بالمحيط الاطلسي، تحت سيطرة حكومة اسلامية، ولو من احد جانبيه. ومع احتمال تنامي هذه المخاطر، بدأت اسرائيل جدياً، تفكر بقبول الانضمام الى الحلف الاطلسي، كونه يمثل المظلة الواقية لكل الاعضاء المنتسبين! * كاتب وصحافي لبنان