لست أدري إن كانت علوم الفيزياء قد قررت اتجاه الزمن: أذهابٌ هو أم إياب؟ هل تولد الكواكب حين تختفي أم تموت؟ هل يمضي الضوء مسرعاً إلى ولادته أم إلى حتفه؟ أسئلة كثيرة لا تجد لها جواباً شافياً، وإن وُجد واحدٌ حمل معه آلاف الأسئلة الجديدة. أياً كان مسار الأيام واتجاهها لا أشعر بغير الفرح لميلاد سنة جديدة. لا أنظر إلى الأمر بوصفه خسارة سنة. أقول لا من قبيل العزاء الذاتي بل من قناعة ثابتة، لقد كسبت سنة أخرى من الحياة التي قال عنها ناظم حكمت إنها جميلة يا صاحبي. يدركُ المرء أن ما من عام يمر إلاّ وفي الكوكب جوعٌ وظمأ ومظالم لا تُعد ولا تُحصى. الأحزان لا تزال في ديارنا عامرة جماعياً على مستوى الأوطان والشعوب وفردياً على مستوى المواطنين والناس الحالمين بغد أفضل. ومع ذلك يظل في الدنيا فسحات حُبّ وخير وجمال. في إمكان المرء الاختيار أين يكون: في خانة الظالمين أو المظلومين، الناعقين على خراب أم المبشّرين بفرح عظيم، المحرّضين على الكراهية و البغضاء أم ناشري المودة والصداقات النبيلة؟ حين نقول أو نكتب كلمة واحدة طيبة نساهم في تخفيف وطأة الظلم وتقليل مساحة الظلام. ولئن كان الحديث الشريف قد اعتبرها صدقة فإننا نعتبر الكلمة الطيبة ضوءاً مؤنساً في الليالي الموحشة والأوقات الباردة واللحظات التي لا ينفع معها مالٌ و لا جاهٌ ولا سلطة ولا سلطان. في مأثوراتنا الشعبية قول حكيم: «فلاح مكْفي سلطان مخفي». أربع كلمات تختصر فلسفة كاملة في الاستقلال الاقتصادي والحرية التي يحصّنها الاكتفاء الذاتي. لكن كيف السبيل إلى الاكتفاء في ظل ثقافة الجشع التي تسود العالم حتى تكاد أن تحوّل البشر إلى كائنات مفترسة تأكل الأخضر واليابس ولا تهتم إلاّ للماديات الفانية بعد أن ولّت أيام كانت للكلمة أولوية على ما عداها. أو تطعمنا الكلمات خبزاً، يقول قائل؟ لا تُغني الكلمة عن الرغيف، لكن الرغيف أيضاً لا يُغني عن الكلمة. كم من السلطات والسلاطين وفروا لرعاياهم الرغيف لكنهم حين ضنّوا بالحرية مادت بهم أرض البشر وماجت وخلعت عنهم سلطانهم وتيجانهم. الحُرُّ يسكت أحياناً عن الجوع، لكن الجائع لا يسكت عن الحرية. أشدُّ الثائرين جائعٌ للكلمة والرغيف معاً.»العولمة المتوحشة» تسعى إلى سرقة الاثنين من شعوب برمتها، لذا يعلو صراخ الجائعين وترتفع قبضاتهم ليس فقط لأجل الخبز بل لأجل صانعه أولاً. لعل أزمات العالم «المعولم» التي أصابت «صانعيه» في الصميم تُولّدُ نقيضه من رحمه، هي بدأت تفعل من حركة «احتلوا وول ستريت» إلى أصغر اعتصام في آخر مدينة أو قرية على الكوكب. لا بد ولا مناص من ولادة جديد ما بعد هذا المخاض، ولا مفر من رد اعتبار لقيمة الإنسان بذاته لا بما يملك، بفكره لا بماله. أزعم أن النماذج البرلسكونية والساركوزية وأشباهها إلى اندثار قريب. نحاولُ كلمةً أو نموت دونها. فليُسعف النطقُ إن لم يُسعد الحالُ. قد لا نملك الرغيف أحياناً لنعطيه، لكن العجيب الغريب أن نبخل بالكلمة التي لا تُفرح سامعها فحسب بل تنبت حقول خير في قلب قائلها أيضاً. لا أقول، بعد غد، حين تصدح حناجر الساهرين بالمعايدات والتهاني بقدوم سنة ميلادية جديدة: مرت سنة ولم يبقَ من العمر أكثر مما راح. بل أقول مستبشراً مع جبران: «الأمس ذاكرةُ اليوم والغد حلمه»، للغد عندي أحلام كثيرة لا يتسع لها عمر واحد، لكن لا بأس إن جربنا أحياناً أن نسكب البحر في قارورة (!) نكسبُ شرفَ المحاولة على الأقل. كل عام وأنتم بألف حلم جميل.