رأى وزير الخارجية الفرنسي السابق هوبير فيدرين ان على الغرب ألا يكون شديد التخوف والتشاؤم، كما لا ينبغي ان يكون شديد التفاؤل والفرح بما يجري من ثورات في العالم العربي. وقال فيدرين في حديث مطوّل الى «الحياة» في مكتبه في باريس: «ينبغي التذكير بأن مسارات التحول الى ديموقراطيات في العالم، كانت تاريخياً طويلة جداً ومتقلبة، وقليلاً ما كانت من دون مشاكل، وهي ستستغرق سنوات في كل الدول العربية التي تشهد ذلك»، ورأى انه ينبغي ايجاد موقف «تحليلي ذكي يواكب ويتحاور ويراهن على تطوّر يغير هذه البلدان، كما سيغير الأحزاب التي تأتي الى السلطة، لأن تلك التي كانت فقط أحزاب معارضة أو ناشطة تغيرها السلطة أكثر مما هي تغيّر السلطة». فيدرين بدأ حياته السياسية الى جانب الرئيس الاشتراكي الراحل فرنسوا ميتران، وبقي عشر سنين الى جانبه، ناطقاً رسمياً باسم الرئاسة ثم أميناً عاماً للرئاسة، ثم شغل منصب وزير خارجية لخمس سنوات في حكومة التعايش الاشتراكية التي رأسها ليونيل جوسبان، خلال عهد جاك شيراك. وقال فيدرين الذي يتمتع بمعرفة واسعة بشؤون العالم العربي، انه لا يدري الى متى سيتمكن النظام السوري من البقاء ولا يستبعد «ان يحاول هذا النظام تثبيت نفسه بقوى القمع البالغة الوحشية... هو فقَدَ أي قاعدة شرعية». وتابع الوزير السابق انه ينبغي تشكيل مجموعة اتصال غير رسمية مكوّنة من فرنساوالولاياتالمتحدةوروسيا وتركيا والسعودية وقطر، لمحاولة ايجاد مخرج للوضع في سورية، معرباً عن اعتقاده بأن لا شيء يمنع تصور ان يتمكن الشعب السوري من تشكيل جمعية تشريعية وحكومة انتقالية مع التنسيقيات المختلفة التي أنشئت. ورأى ان أي دولة منفردة لا يمكنها ايجاد الحل كما «لا يكفي تحرك الجامعة العربية التي ستخضع الى خداع النظام السوري». وتوقع ان تحمل مرحلة التغيير في سورية بعض الأخطار على الوضع في لبنان، وعلى المدى المتوسط ارتياح هذا الوضع وان يكون المسار جيداً. واعتبر ان «حزب الله» عازم على إبقاء تأثيره و «سيحاول اسقاط أي مسار يخفض هيمنته ويمكّن من اعادة تكوين سلطة ذاتية لبنانية تخرج عن هيمنته، وهذا سيعتمد على اللعبة الإيرانية». وأبدى فيدرين تشاؤماً بالمسار الفلسطيني – الإسرائيلي قائلاً ان المسار السلمي الحقيقي لم يكن يوماً سوى مع الرئيس السابق للحكومة الإسرائيلية اسحق رابين، وأن الأوضاع ستتدهور ولا دولة فلسطينية في الأفق. الى ذلك، اعتبر فيدرين انه لا يمكن تصور زوال اليورو، ورأى احتمالاً كبيراً لعدم تمكن الرئيس نيكولا ساركوزي من الفوز بولاية ثانية، في الانتخابات الفرنسية المتوقعة في نيسان (ابريل) المقبل وهنا نص الحوار: عام 2011 كان عام تقلبات ضخمة في العالم العربي، فهل تعتقد بأن حصيلة هذه التغييرات ستكون إيجابية أم لا؟ - في آذار (مارس) 2005 كتبت مقالاً تحدثت فيه عن غليان ونفاد صبر في المجتمعات العربية، وكان هذا بادياً آنذاك، وما لفتني عندها أن جزءاً من العرب الأكثر معارضة للولايات المتحدة ولسياسة (جورج) بوش وأكاذيبه في شأن العراق، كان حساساً حيال فكرة التدخل الذي سيسمح بإحلال الديموقراطية. كان هناك جدل حول الموضوع وكان واضحاً أن الوضع معرّض للارتجاج في يوم من الأيام، ولكن، لم تكن لديّ فكرة عن موعد حصول ذلك. كان يبدو لي واضحاً أن هذا سيحصل يوماً، لكني كسواي لم أكن أعرف متى. فما من أحد توقع هذه الأحداث، لا (زين العابدين) بن علي ولا الإسلاميون التوانسة الذين لم يترقبوا ذلك. ولكن كان أكيداً أن هناك سلسلة عناصر تشكل مزيجاً متفجراً. واعتبرت عام 2005 وما زلت، انه عندما ستكون هناك مسارات ديموقراطية حقيقية سيحلّ الإسلاميون في الطليعة أينما كانوا. وكتبت ذلك في 2005. ما الذي جعلك تفكر على هذا النحو؟ - تحليل أوضاع البلدان. كنت أتساءل عما سيحل يوماً ما، ولم يكن أكيداً أننا على استعداد لتحمل النتائج، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المسلمين المعتدلين، ولم يكن أكيداً أيضاً أن الإسلاميين لن يتغيروا ويتحولوا ديموقراطيين إسلاميين على غرار ما حصل في العالم المسيحي، إذ ظهر على مدى طويل مسيحيون ديموقراطيون، وهو ما كان يبدو متعارضاً في البداية. منذ عام 2005 كنت أتحدث عن حركات عميقة في أوساط الشعوب العربية المهملة من قبل الحداثة وفي الوقت ذاته منجذبة إليها نتيجة الصورة التي أعطاها عنها الإعلام والإنترنت. أنا أعرف جيداً العالم العربي، ولديّ الكثير من الأصدقاء العرب، وكنت أرى أن شيئاً ما سيحدث في العمق، وينبغي أن يكون حاضراً في أذهاننا أن العرب كانوا دائماً مخترعي حداثتهم وديموقراطيتهم أو حفاري قبورها. وينبغي مواكبة ذلك بروح أخوية من دون دوغماتية غربية كي لا يكون الموقف الغربي بمثابة موجة كولونيالية جديدة بالغة الخطورة. وهذا للقول إن هذه التساؤلات لم أطرحها على نفسي، فقط هذه السنة، أي عام 2011 حين فوجئ الجميع، إذ كانت هناك مؤشرات سباقة انطلقت في إيران وشهدنا تظاهرات في لبنان. لكن ما انطلق بقوة بالغة في تونس، يشكل إنذاراً ضمنياً لكل الأنظمة التوتاليتارية والقمعية والعسكرية في العالم كله وليس فقط في العالم العربي. وهذا يعني خصوصاً البلدان التي تضم أعداداً كبيرة من الشباب المؤهل والعاطل من العمل، ذي الصلة بالتقنيات الحديثة. إن المسارات الديموقراطية تاريخياً كانت طويلة جداً ويندر أن تتحقق من دون مشاكل. وقد تتوصل تونس مثلاً إلى ذلك وهذا غير مستبعد، لأن لديها مجتمعاً متجانساً ومؤهلاً في شكل جيد جداً للتسوية والحوار، لكن هذا ليس الحال في كل مكان. المسار إذاً، سيكون طويلاً وسيهتز سريعاً ما يجعلني لا أستخدم عبارة الربيع العربي. فالربيع قصير جداً وملائكي جداً إذ يوحي بالأزهار ويعد بالثمار، في حين أن الأمور ليست بهذه البساطة. الأحداث (في المنطقة) مستمرة منذ سنة تقريباً، ونجمت عنها مسارات مختلفة لا بد من التمييز بينها. وهي تتفاوت بين الجمود المطلق والثورة والتطور والحروب الأهلية... إلخ. وهذا سيستمر لسنوات في دول ولا بد بالتالي من التفكير في كل حالة على حدة، والتمييز بين القرارات المتخذة من قبل هذه البلدان وتلك النابعة من مواقف خارجية. والمقصود هنا ليس فقط الولاياتالمتحدة أو أوروبا أو الأتراك أو الروس أو الإسرائيليين. فالمخرج هو أيضاً الدول العربية نظراً إلى غياب التنسيق الفعلي حتى في الدول المتغيرة. لذلك، ينبغي الآن استعراض كل بلد على حدة لمعرفة الوجهة التي سيجذب إليها. وكيف تقرأ أحداث مصر؟ هل هي تطور نحو الديموقراطية؟ - كلمة الديموقراطية تنطوي على أمرين، والجزء الأبسط هنا هو الانتخابات الحرة التي لا تشكل سوى جزء منها، لأن ما تنطوي عليه الديموقراطية في كل النصوص الدولية والمواقع وحقوق الإنسان هو ثقافة، وكذلك احترام الغالبية الانتخابية حقوقَ الأقلية. هذا يعيدنا إلى فكرة حرية التعبير والإعلام، وهو كل متكامل لثقافة ديموقراطية. ويعلمنا التاريخ أن من الأسهل إعادة الديموقراطية بعد إطاحتها على غرار ما حصل في اليونان وإسبانيا أو أميركا اللاتينية من انقلابات عسكرية، أو الشيوعية في الدول الشرقية. إعادة الديموقراطية أسهل من إحلالها انطلاقاً من الصفر. فهناك مجتمعات سبق أن شهدت فترات من الديموقراطية وأخرى لم تشهد مثلهاً أبداً، وأوروباً الشرقية كانت لديها حياة سياسية قبل الشيوعية. ومصر كانت لديها حياة سياسية منذ مدة بعيدة ولم يبقَ لها أي أثر. هناك إذاً، مسارات ديموقراطية بالمعنى التقني لكنها ليست ديموقراطية ثقافياً بعد، ويجب اكتساب هذه الثقافة. ربما يكون هذا ممكناً وأنا لا أريد أن أشتمّ المستقبل لكن المسار الديموقراطي لا يؤدي تلقائياً إلى الثقافة الديموقراطية، لذلك فالأمور تأخذ وقتاً طويلاً وتنطوي على كثير من التعقيدات. فنرى أن هناك أطرافاً إسلامية في المغرب تقول إنها ديموقراطية ليس فقط لأنها فازت في الانتخابات بل لأنها راغبة في أن يحترم كل من الأطراف حقوق الآخر، وفي عدم انتهاك هذا الأمر أو ذاك، في المجال الشخصي أو العائلي. والكل يتريث ليتبيّن حقيقة الأمر، بمن فيهم الحداثيون والذين لم يصوتوا للإسلاميين وهم كثيرون. وإذا أحصينا الذين صوّتوا لغيرالإسلاميين والذين امتنعوا عن التصويت، نجد العدد كبيراً. من هذا المنطلق، هناك تساؤل صعب جداً: فإما أن نقول بسذاجة إنه أمر رائع والأمور ستسير جيداً، وقد ثبت أن بالإمكان التخلص من التسلط أو من كل تلك الأنظمة التي كانت على صلة أكبر باللصوصية، من دون السقوط في إسلاموية أكثر تخلفاً. نتمنى ذلك ولكن من غير الممكن القول إنه بات أكيداً ولا يمكن أن نكون بسذاجة كلية الآن بالنسبة إلى المستقبل الديموقراطي. سيكون ممكناً أن نعتمد خطاباً آخر عندما نرى حزباً إسلامياً وصل الى السلطة عبر انتخابات، يغادر الحكم لأنه خسر انتخابات لاحقة. عندها يمكن القول إنهم تطبّعوا بالديموقراطية مثل الأحزاب الأخرى، لكن هذا لم يحصل بعد. في المقابل ينبغي عدم التشاؤم والقول إن مصر ستسقط في قبضة السلفيين، مثلما لا يمكن أن نعزل أي تصريح لهذا الإسلامي أو ذاك مخالفٍ للصواب وينذر بأشياء رهيبة عن إطاره، واعتباره لا يمثل أي شيء، وأن الأمور ستتجه نحو التوازن. ومن الضروري الحذر البالغ حيال مواقف العرب الآخرين والأوروبيين. فالأوضاع مفتوحة جداً وتتوقف في شكل رئيسي على توازن القوى الداخلي، وليس على تعليقات الآخرين وأفعالهم. لدى الأوروبيين المهتمين جداً بكل ما يجري، القليل من الأدوات في هذه البلدان، وهم ذهِلوا عموماً بالأحداث، وأعجِبوا بشعارات الشباب ونبرتهم، ثم صعقوا بالنتائج وأصبحوا قلقين ضمناً من دون معرفة ما يمكن فعله. يجب التوصل إلى موقف تحليلي يعبر عن تطابق وجاهزية ومواكبة ذكية وحوار، والرهان على تطور يغيّر البلد كما سيغيّر الأحزاب التي ستصل إلى السلطة، علماً أن الأحزاب المعارضة أو الاحتجاجية أو الشعوبية تتغير نتيجة ممارستها الحكم أكثر مما تغيّر هي الحكم. ولنرَ إذاً، بعد ستة أشهر أو سنة أو سنتين أو ثلاث أين سيحصل توزع مختلف للقوى، ربما في تونس أو مصر. في المغرب مثلاً الوضع مختلف، لأن المسار أطلقه الملك (محمد السادس) الذي تحرك سريعاً واللافت قصر المدة بين شباط (فبراير) والخطاب الذي ألقاه في 9 آذار الماضي. هذا النهج أنشأ إطاراً فريداً إذ شهد المغرب انتخابات حرة حصل فيها الإسلاميون على العدد الأكبر من الأصوات، فعمل الملك مثلما وعد، على تسمية رئيس للحكومة في صفهم، ما يزيل دواعي الشك بالنسبة إلى ما تبقى. واعتقد بأنه سيخوض اللعبة لكنني لا أعرف ما سيترتب على ذلك بالنسبة إلى البلد. فالحزب الحاكم سيجد نفسه في مواجهة المشكلة الكلاسيكية المترتبة على الحكم. ماذا عن تونس؟ - سيكون هناك توتر بين الإسلاميين وجميع الذين لم يصوّتوا لهم، من خلال مجموعة من النزاعات أو التوترات حول مواضيع مؤسساتية وتوترات سياسية واجتماعية على الأرض. وعلى هذا المستوى، الإسلاميون هم الأكثر قوة لأنهم احتلوا بذكاء المجال الذي أهمِل تماماً من قبل الدول والإدارات. لكن، هذا لا ينفي إمكان أن تسير الأمور كما ينبغي. ففي المغرب وتونس ليس هناك على الأرجح ما يدعو إلى القلق. فهم يعملون وفقاً لما قرروه، وفي أي حال ليس لفرنسا أبوية متخوفة. وفي ليبيا؟ - الوضع في ليبيا مختلف كلياً، وأعتقد بأن مبالغات حصلت بالنسبة إلى خطر التقسيم. أتساءل عما إذا كان هناك شعور وطني ليبي أقوى مما تحدث عنه الاختصاصيون المزعومون في شأن سكان طرابلس أو بنغازي وغيرهم. الوضع مختلف فليس لدى الليبيين ماضي المغرب وتونس، ثم إن النظام المروّع للقذافي اقتلع كل شيء ولم يترك أي بنية. ولا بد بالتالي من بعض الوقت ليتعرف الليبيون إلى بعضهم بعضاً وتهدأ الأمور. هنا ينبغي الحفاظ على التروي وعدم التهافت على القول بأن كل الأمور ستسير نحو الأفضل. فالمسار يتطلب كثيراً من الوقت على رغم أن الأوضاع ليست على أي صلة بوضع ألمانيا واليابان عام 1945، لكن التشوّش يستمر طويلاً وينبغي إيلاء الثقة إلى مقدرة هذه الشعوب وعدم فقدان الصبر. أنا متمسك بعدم إبداء القلق المسبق والتلقائي، غير المبني على أسس، خصوصاً أننا لسنا في موقع يخولنا ذلك، وفي الوقت ذاته ينبغي عدم إبداء السذاجة. إنها مسارات ضرورية ومثيرة للإعجاب، معقدة وصعبة ضمناً. ماذا عن سورية؟ - لا أعرف كم من الوقت سيتمكن هذا النظام من الصمود، ولا يمكن أن نستبعد تشبثه بموقعه بقوة القمع، خصوصاً الوحشية الاستثنائية. هذا النظام فقد أي قاعدة شرعية، والقاعدة الوحيدة التي يحتفظ بها هي قوة القمع، إلى جانب خوف أقليات معينة حيال الغالبية السنّية، ومن تفاقم الأوضاع لاحقاً بسبب البلبلة. النظام يلعب على هذه المخاوف لكن هذا لا يكفي إذ يجد نفسه مضطراً للجوء إلى إلقمع الوحشي. هو نظام بلا شرعية، فقد شرعيته في نظر الغرب، لكن الغرب ليس من يسيِّر الأمور وبدأ يفقدها في نظر العرب الآخرين لمجرد أن التمادي في دعمه يعرضهم أنفسهم للخطر. ونرى أن العرب يحاولون الابتعاد عنه على رغم أن النظام السوري يحاول خداعهم في موضوع المراقبين. هناك إذاً، تردٍ بالعمق جعل حتى روسيا تدرك أن الدفاع عن هذا النظام بطريقة عمياء بدأ يصبح مكلفاً ما يعبر عن تآكل أساسي. إلى جانب ذلك يبقى القمع الذي أتاح البقاء للنظام الإيراني الذي سبق أن واجه الربيع. ومعروف أن هذه الأنظمة محكوم عليها في وقت من الأوقات ولكن، لا يمكن أحداً أن يقول متى. وليس هناك أي سبب كي يكون من المستحيل في سورية انتخاب أشخاص وإنشاء مجلس تأسيسي وتشكيل حكومة انتقالية مع التنسيقيات التي تشكلت ومع التكنوقراط، علماً أن في سورية نخباً من نوعية جيدة جداً وأشخاصاً مميزين غالباً، موجودين في الخارج. ليس هناك ما يمنع القول ان بلداً كبيراً مثل سورية قادر على إيجاد أشخاص يمثلون حقبة انتقالية حتى إذا كان ذلك معقداً جداً ومشوشاً. ولكن، نظراً إلى عدم وجود مخرج سهل، ولا بلد حدد حلاً للوضع السوري باستثناء إيران التي تعمل في الاتجاه المعاكس، ولأن الأمور مجمدة في مجلس الأمن، على رغم أن روسيا بدأت تتحرك قليلاً، ينبغي التفكير في مجموعة اتصال غير رسمية تضم فرنساوالولاياتالمتحدةوروسيا وتركيا والسعودية وقطر للعمل لإيجاد مخرج على الطريقة اليمنية. وتتولى المجموعة العمل بطريقة غير رسمية لمحاولة إيجاد مخرج. دور الجامعة العربية والدول العربية حُسِم، ولكن ليس بوسعها لعب الدور بمفردها، بل ينبغي إشراك روسيا لتذليل الجمود كما لا يمكن التخلي عن تركيا، ولفرنساوالولاياتالمتحدة دور تلعبانه. لا تركيا بمفردها ولا فرنسا ولا الولاياتالمتحدة ولا السعودية بمفردها يمكن أن تجد حلاً، والجامعة العربية ستجد صعوبة في القيام بأكثر مما فعلت حتى الآن. وإذا قررنا التفكير في مجموعة تعمل لإيجاد مخرج، ينبغي أن تتكوّن على النحو الذي أشرت إليه، وعلى أعضاء المجموعة ألا يتواجهوا في ما بينهم، بل على الغربيين أن يجدوا طريقة للعمل مع الروس. في رأيك، لماذا قُمِعت بسرعة حركة الاحتجاج التي بدأت في إيران ولم تُسقِط النظام؟ - حركة الاحتجاج ضد النظام بدأت في إيران قبل البلدان الأخرى. الربيع بدأ هناك، لكنه لا يعتمد كمثال، فلا أحد يرغب في اعتماد الربيع الذي سرعان ما توقف كمثال. ولماذا توقف سريعاً في إيران ولم يتوقف في سورية. - لأن إيران بلد أكبر ولديه مقدرات ذاتية تتيح له البقاء لمدة أطول، حتى في ظل العقوبات البالغة التشدد. والنظام الإيراني يتمتع بشرعية تبقى قوية جداً نتيجة التمرد على نظام الشاه والمواجهة مع الولاياتالمتحدة، ومن ثم الحرب التي شنها العراق، ما حمى النظام وأضفى عليه هالة خاصة، ولو أن لدى الإيرانيين اليوم ألف سبب لإبداء الاستياء. وهذا على غرار الجزائر حيث يرغب الشعب في التغيير لكنه ليس مستعداً لأن يعيش حرباً أهلية جديدة. كل هذا يدخل في الاعتبار والشعب الإيراني أكثر حساسية من الشعب السوري حيال بروباغندا تزعم أن العالم أجمع ضد إيران، وأن ما يحصل هو مناورات من الخارج. وهذا ما يسعى إلى قوله (الرئيس بشار) الأسد لكنني لا أعتقد بأنه يقنع السوريين، في حين أنه يقنع الإيرانيين نسبياً. إضافة إلى ذلك، النظام القمعي بالغ التطور على غرار أنظمة القمع في الدول العربية لكنه في حالة إيران ينطوي على نظام مصالح اقتصادية أكثر مما هي الحال في سورية أو مصر أو اليمن. حتى لو أن أنظمة هذه البلدان تسيطر على الاقتصاد، فالأمر مختلف عن حالة إيران، حيث السيطرة هائلة. إذ إن الاقتصاد الإيراني خاضع لسيطرة «الباسدران» (الحرس الثوري). وهذه العناصر مجتمعة إضافة إلى القمع الوحشي وعدم وجود سيناريو لمخرج واضح، جعلت الإيرانيين يفضلون عدم السقوط في الفوضى. فلم نشهد بروز تنسيق مماثل لما حصل في ليبيا، ولا حتى نشوء تنسيقيات على غرار تلك التي تنتظم في سورية بمساعدة الأتراك وغيرهم. والمعارضون الإيرانيون لا يعرفون كيف يمكن أن يتشقق النظام، إذ إن هذا ينبغي أن يتم من الداخل، وهم لا يرون ما يمكن ان يعطل الجهاز القمعي. لكن هذا الأمر سيحصل يوماً ما، خصوصاً أن المجتمع الإيراني أكثر حداثة بكثير مما يعتقده الغربيون. هل تعتقد بأن هناك خطر تقسيم في سورية والعراق ولبنان، خصوصاً بعد انسحاب القوات الأميركية من العراق؟ - لا يمكن أن نثبت أن هذا لن يحصل، ولكن يبدو لي أنها مخاوف يجري التلويح بها باستمرار. قيل ذلك أيضاً خلال الحرب العراقية - الإيرانية (1980-1988)، حين جرى الحديث عن انفصال شيعة العراق وعن انفصال البلوش عن إيران. هذا يتردد دائماً لأن الغرب لا يزال مشرّباً بالمفهوم الكولونيالي عندما كنا نقسم خرائط الدول باستمرار وفقاً لمصالحنا. لكن هذا لم يحصل، وليبيا مثلاً ليست بصدد التمزق جغرافياً، ولكن في حالة سورية إذا أرغمت أسرة الأسد على اللجوء إلى الجبال قد ينشأ نوع من معقل علوي بالغ التسلح. ومن غير الممكن استبعاد أي احتمال في الفترة الانتقالية، لكنني لا أرى تقسيماً دائماً، وذلك حتى في العراق. ما النتائج التي تترتب على سقوط النظام السوري بالنسبة إلى لبنان؟ - يمكن أن تكون هذه النتائج إيجابية. لحظة التغيير خطرة، وإذا أدت إلى حرب أهلية حقيقية سيكون الوضع خطراً. وإذا انتظم المعقل العلوي سيكون مزعزعاً للاستقرار. ولكن، على المدى المتوسط، المسار إيجابي بالضرورة. ف «حزب الله» الذي يسعى إلى الحفاظ على نفوذه سيحاول إفشال أي نهج يقلصه. ولن يسمح بتكوين استقلالٍ ذاتي لبناني خارجٍ عن سيطرته. والأمر مرتبط إذاً باللعبة الإيرانية، لكن ما يحصل في سورية اليوم هو تغيير حقيقي، ولسنا مضطرين لتحليله باعتباره مجموعة من السيناريوات السيئة بالنسبة إلى كل الدول، وليس أكيداً أن تكون النتائج متطابقة اين ما كان. ربما تكون هناك أطراف تعتمد سياسة الأسوأ في فترة ما، لكن هناك كثيرين ممن لا يجدون أي مصلحة في سياسة الأسوأ، بل لديهم الكثير مما يخسرونه بسببها. هناك عناصر تدفع في كلا الاتجاهين، لكنني لن أقدم على تكهن مأسوي تلقائياً أياً تكن الأحوال في هذه الفترة وعلى رغم أنها لا تثير الطمأنينة. هذه التغييرات تحصل في العالم العربي فيما مسيرة السلام مستمرة في التعثر. كيف تقرأ هذا الوضع؟ - توازن القوى هو الذي يفسر هذا التعثر. وما شهدناه منذ عقود هو أن العرب لم يتمكنوا أبداً من التوحد بطريقة فعالة، لفرض حل معقول على إسرائيل. كانوا يرفعون مطالب غير معقولة ومعادية لإسرائيل إلى حد يحمل العالم بأكمله على الالتفاف حول الطرف الإسرائيلي، ولا يستثنى من ذلك الذين ينتقدون السياسة الإسرائيلية. كما أن العرب لم يتمكنوا من استخدام الأسلحة الاقتصادية التي يمتلكونها، لإقناع الغرب بفرض تسوية معقولة. والكثيرون منهم كانوا غير مبالين حيال أوضاع الفلسطينيين، ويحاولون إلحاق (ياسر) عرفات أو سواه بسياستهم في أوضاع معينة. فبرهن العرب عن عدم قدرة دائمة على امتلاك نفوذ حقيقي على مستوى هذه القضية. على الجانب الغربي، المسألة معروفة من الجميع، إذ إن قدرة التأثير الإسرائيلية وقدرة اليمين الإسرائيلي هما الأقوى منذ مدة طويلة، وليس العكس. حاول (مناحيم) بيغن توحيد اليمين الإسرائيلي نهاية السبعينات، ومنذ ذلك الحين سيطر الليكود على اللعبة في إسرائيل من خلال وجوده في الحكم أو في ائتلافات أو من خلال تضليل وتخويف من هم ليسوا على تطابق مع خطه. وعلى مدى هذه الفترة الطويلة، كل المنظمات اليهودية التي كانت موزعة بين الليكود وحزب العمل الذي يمثل معسكر السلام تحولت تدريجاً إلى خط الليكود. هذا الخط مفاده الاستعانة دائماً بأي نوع من الأعذار لتأجيل إنشاء الدولة الفلسطينية، والتظاهر بأنه ليس معارضاً لها تماماً. وهو بذلك يبقي نهجه. وهنا أذكر رد بيغن على (فرانسوا) ميتران في الكنيست، إذ قال: «الأمر الوحيد الذي يعترض التوافق بين فرنسا وإسرائيل هو دعمكم للدولة الفلسطينية». وعلى المدى الطويل قال قادة الليكود نعم، ربما ينبغي أن يكون هناك نوع من الدولة الفلسطينية، لكن الموضوع لم ينضج بعد. كانوا يقولون إن الفلسطينيين فاسدون وإرهابيون ولجأوا إلى كل الأساليب لئلا يتحدث أحد إليهم. كانت هذه سياسة مخادعة وذكية اعتمدت على مر الزمن، وحملت الأميركيين على التطابق معها. ثم حصل بعض الاختراقات المعروفة من الجميع، اختراق جزئي عبر كامب ديفيد الذي اقتصر على مصر، واختراقات أوروبية غير أساسية: جيسكار ديستان في البندقية وميتران في الكنيست وميتران مستقبلاً عرفات. كانت هذه بوادر تهدف إلى إظهار الاستقلالية الأوروبية ولم تكن أداة مركزية. والموقف الوحيد البارز جاء عبر (إسحق) رابين رجل إسرائيل الكبير خلال السنوات الثلاثين الماضية، الذي كان يقول أشياء رائعة لتبديد البارانويا الإسرائيلية. والذين أوحوا لقاتله بما فعله لم يخطئوا لأن هذا العمل جمد كل شيء، بل يمكن القول إنه منذ ذلك الحين لم تعد هناك مسيرة سلام. نسمع دائماً عن الولاية الثانية للرؤساء الأميركيين، لكن بيل كلينتون لم يبذل أي جهد إلا في الأشهر الثلاثة الأخيرة من ولايته الثانية، والوضع معقد إلى درجة أن أي مسؤول غربي يسعى إلى تجنب الموضوع وكسب الوقت. هذا مستمر منذ مدّة طويلة، إذ لم تعد هناك مسيرة سلمية منذ مقتل رابين، ولا أرى الآن أي عناصر مؤثرة تغيّر الوضع. في إسرائيل معسكر سلام، لكنه افتراضي ولا يعبّر عن نفسه في صناديق الاقتراع، في حين ليس هناك حزب سلام وقائد. الإسرائيليون يصوتون انطلاقاً من اعتبارات أخرى غير السلام فيما المنظمات اليهودية ليكودية، وهناك الكثير من الشخصيات اليهودية الليبرالية المؤيدة للسلام لكنها محبطة. أما العرب فهم أكثر قدرة من السابق، لكن لديهم اهتمامات أخرى. والمرجح للأسف أن نرى الفلسطينيين يعودون إلى مطلب الدولة الواحدة، ما يؤدي إلى وضع من التوتر الذي لا يحتمل، خصوصاً أن بعض الفلسطينيين مثل السلطة، سيجدون أن الدعم انحسر من حولهم مقارنة بالسابق، مع رحيل مبارك أو سواه، وأن الآخرين سيحظون بدعم أكبر، ما سيغذي البارانويا الإسرائيلية القائلة: «إننا محاطون بمتطرفين لا يريدون سوى زوالنا وهذا يبرر موقفنا المتصلب». هذا ما يجعلني أتوقع تفاقم الوضع. نعود إلى روسيا وسياستها حيال سورية، وكونك خبيراً في شؤون هذا البلد، ما رأيك في إصرار روسيا على رفض إدانة النظام السوري؟ - انها سياسة كلاسيكية. فروسيا تدار من قبل أشخاص لم يستوعبوا بعد نهاية الاتحاد السوفياتي. وأذكّر مجدداً هنا بأن (فلاديمير) بوتين كان صرّح بأن نهاية الاتحاد السوفياتي هي واحدة من أسوأ مآسي القرن العشرين، في حين كانت نبأ ساراً لمعظم الأشخاص. وهناك كثيرون من الروس مستاؤون من فقدان روسيا نفوذها في الشرق الأوسط، في حين كان لها نصف هذا النفوذ خلال الحرب الباردة. بالتالي هم متمسكون جداً بما تبقى لهم، أي قاعدة طرطوس وبعض صفقات الأسلحة وقد يلجأون إلى مساومة إذا وجدوا أن موقفهم من سورية مكلف، وقد يتسبب لهم في مشكلة. اليورو ومصيره هل ترى أن اليورو معرض للانفجار؟ - مهما يقال لا يمكنني أن أصدق زوال اليورو. فزواله بالنسبة إلى ألمانيا يعني العودة إلى المارك أو إلى نوع من اليورو مارك الذي سترتفع قيمته إلى أقصى حد، ما يلحق ضرراً بالغاً بالنموذج الألماني الذي يستند إلى التصدير. كما أن ثلثي الفائض الألماني مصدرهما ليس التجارة مع الصين بل مع أوروبا، وإذا كان سعر المارك مرتفعاً جداً مقارنة بالعملات الوطنية الأخرى المنخفضة، فستجد ألمانيا نفسها على حافة الهاوية. عندها سنفهم رفضهم تحمل التبعات بدلاً من الآخرين وقولهم: إذا أردتم أن نكون متضامنين، فعليكم أن تحسنوا إدارة شؤونكم الاقتصادية وتنظيمها. ومن الممكن ان نتفهم النظام الألماني حيث المستشارة مراقبة من قبل البوندستاغ المراقب من قبل الكرلسروه... لكن ما لا نتفهمه هو أن تمنع ألمانيا المصرف المركزي الأوروبي من لعب دوره، على غرار ما يفعل المصرف المركزي البريطاني. قارنا أخيراً بين الاقتصادين الفرنسي والبريطاني، فتبيّن أن الأسس البريطانية أسوأ من الفرنسية، وما نفتقر إليه هو عدم امتلاك المصرف المركزي صلاحية شراء سندات الدولة. لكن هذا قابل للتغيير، وهو ما كان الحاكم السابق للمصرف المركزي الأوروبي جان كلود تريشيه حاول تعديله بطريقة براغماتية، لكن ألمانيا اعترضت. وعندما تم التوصل إلى اتفاق بروكسيل، تمكنا من القول بتفاؤل ان فرنسا قبلت بالكثير على صعيد إدراج التقشف في المؤسسات، وفي المقابل كفت ألمانيا عن منع المصرف المركزي من لعب دوره. وسبق أن قلت إننا سنرى هل المصرف المركزي مستقل عن ألمانيا. الانتخابات الفرنسية كيف تنظر إلى تطور حملة الانتخابات الرئاسية الفرنسية قبل خمسة أشهر من موعدها؟ - الملاحظ في كل مكان في أورويا أن الناخبين يخذلون المرشحين الذين هم في الحكم، ويصوّتون ضدهم أياً تكن الحصيلة. فهم مستاؤون لا يثقون بأحد وهذا اتجاه عام جداً ظهر من خلال الانتخابات ال 10 أو ال12 الأخيرة باستثناء بولونيا. إنه منحى عام، من إسبانيا الى إيطاليا وبريطانيا والعديد من الدول الأخرى، وبمعزل عما إذا كان عادلاً أم لا، نرى أن هناك نوعاً من الاستياء والرفض حيال الرئيس ساركوزي وأسلوبه وشخصه وتصرفه، على رغم أنه تحسّن مقارنة بالسابق، ما أدى إلى انخفاض كبير في الاستطلاعات. وهذه أدنى بكثير مما كانت عليه استطلاعات ديستان، فالأرجح إذاً، أنه سيهزم. ولكن لا يقين قاطعاً في المجال الانتخابي، فالحملات لها ديناميكية خاصة وساركوزي أظهر أنه مرشح يحظى بفاعلية بالغة، لا يمكن الذهاب أبعد من ذلك في هذا الشأن اليوم.