من طبيعة الأنظمة التسلطية تعاملها الانتهازي مع الحداثة والهوية، فهي تتبنى الموقفين معاً كي لا تحقّق شيئاً منهما، وتنتج خطابات متخشبة تمنحها فرصة المناورة بين استدرار دعم الخارج والنخب التكنوقراطية باسم الحداثة واستجلاب ولاء الطبقات الاجتماعية الشعبية باستغلال الشعور الديني وترسيخ العادات والتقاليد بما فيها من صالح وطالح. من هنا ينشأ المواطن في المجتمع التسلطي مستلَبَ الوعي، وتطغى خاصيات الإنسان المقهور والشخصية الفهلوية، كما حلّلها الدكتور مصطفى حجازي في كتاب مشهور. ولا شك في أن أحد التحديات الكبرى للثورات العربية الراهنة يتمثل في مواجهة الآثار الخطيرة والعميقة والمعيقة المترتبة على التصحر الثقافي الذي فرضته الأنظمة التسلطية على المواطنين مدّة طويلة، وتربّى عليه هؤلاء في المدارس والمعاهد والجامعات، ورضعوه رضاعاً من خلال الدعاية السياسية وبرامج وسائل الإعلام. لقد أثبتت دراسات علمية عديدة أنّ واقع الاستلاب المترتب على التسلط يؤدي في كثير من الأحيان إلى تماهي الأفراد بالمتسلط واستبطان سلوكه، ما يعني أن وضع الحرية قد يؤدّي إلى إعادة انتاج التسلط بصيغ مغايرة، وهذا ما يفسر إلى حدّ ما لماذا تتجه الجماهير إلى الأحزاب الدينية، فالتماهي يمثل في الوضعية الاستبدادية واحدة من آليات دفاعية عديدة يتحصّن بها المواطنون لتحقيق حدّ من التوازن في مواجهة وضع لا قدرة لهم على تغييره، لكنه قد يتحوّل في وضع الحرية اختيارا سلوكيا يعوّض الذات المقهورة عن شعورها بالنقص والذل أمام مستبدّيها. تُطرح اليوم مهمات عاجلة أمام الثورات العربية، منها منح الأمل للبؤساء والمحرومين، وهم ملايين، حتى يتأكدوا من أن هذه الثورات سترفع مستواهم المعيشي وتمنحهم الكرامة، وأنها لن تجعل منهم مجرّد وقود لانتقال السلطة إلى حكام جدد. ومنها أيضاً وضع أنظمة سياسية تكون ديموقراطية حقاً وتضمن الانتقال السلمي للسلطة مستقبلاً، بما يقي الأجيال القادمة أن تعيش المآسي نفسها التي عاشها سابقوها. وقد لا تكون مهمة بناء الثقافة الجديدة بأقلّ استعجالاً من هاتين المهمتين، فالثورة إذا بقيت على مستوى الانفعال انتهت إلى الضمور ولو بعد حين، مع التهديد المتواصل بإعادة انتاج التسلط بشخصيات وهيئات جديدة. وتتوافر اليوم فرصة تاريخية نادرة لتجديد الفكر العربي وإخراجه من المثالية إلى الواقعية، وهي فرصة مطروحة على التيارين العريضين في هذا الفكر على حدّ سواء، فتيار الهوية ظلّ مبعداً عن الممارسة السياسية والإدارية أو أنه قدّم أسوأ وجوه هذه الممارسة كما في أفغانستان وإيران والسودان (وهي نماذج يسكت عنها دعاة الهوية ويتناسون أنهم كانوا من مؤيديها). وتيار الحداثة، وإن لم يتعرّض إلى القدر نفسه من القمع، فقد كان مصيره التهميش أيضاً في المكتبات وأروقة الجامعات، ولم يسمح له بأن يمتدّ ويتطور داخل المجتمع، لذلك يُتهم بالنخبوية، مع أنها فرضت عليه في الغالب ولم تكن خياراً منه، وكانت إحدى وسائل محاصرته ومقاومته توظيف الشعور الديني ضدّه. كانت النتيجة بقاء التيارين في مستوى المبادئ والعموميات وتمسك كلّ منهما بسلف متخيَّل، كما قال الجابري، سلف صاغه كل منهما في مرآة سجنه التاريخي والاجتماعي، وقد نظرا معاً للخلاص من خلال وضع مثالي غير تعدّدي يدخل فيه الناس أفواجاً في الرأي الواحد والحزب الواحد ويصطفّون وراء القائد الواحد. فتيار الهوية مطالب اليوم بالتخلص من جذوره الفكرية الإخوانية الأصولية وإعادة الالتحام بالفكر الإصلاحي الذي كان قد أقحم في خطابه منذ القرن التاسع عشر مفاهيم المواطَنة والوطن والدستور والبرلمان والحرية. وما يسمى بالتيار الصحوي اليوم هو مزيج بين الإخوانية والإصلاحية، وستدفعه الممارسة إلى التخلص أكثر فأكثر من الرافد الأول وتطوير الإصلاحية الدينية ذات التوجه المنفتح والمقاصدي، وسيكون مقياس نجاحه التدرّجَ في هذا المسار، وإلاّ جعل خطابه في واد وممارساته السياسية في واد آخر، وبرزت تناقضاته صارخة جلية، فيكرّس خصائص الثقافة الفهلوية، التي تتلاعب على الكلمات والعبارات مثلما كانت تسلك الأنظمة التسلطية. وبالمثل، سيدرك التيار الحداثي أن الشعوب لا تحرّكها الدروس النظرية المجردة عن تجاربها وخبراتها ومخزونها النفسي، ولا تفكّر من خلال المصطلحات والمفاهيم المنتقاة من المعاجم والموسوعات، ثم إن واقع التهميش الذي عانى منه طويلاً هذا التيار دفع العديد من ممثليه إلى صياغات نظرية قصوى ذات منزع استئصالي، لا تأخذ بعين الاعتبار تعقيدات المجتمعات والنفسيات. وقد لا يهتم هؤلاء المنظرون أصلاً بفهم هذا التعقد، لأنهم يعتبرون مهمتهم طرح المبادئ ولم يسبق لهم مواجهة حراك اجتماعي حقيقي. فالاستئصالية كانت تعبّر عن الرغبة في النقاء الأيديولوجي لكنها تصبح عملياً إقصاءً لمختلفين لهم الحقوق في المواطنة والمجتمع نفسها، ثم مع انقلاب موازين القوى تتحوّل إلى ذريعة لهؤلاء المختلفين لإقصاء الحداثيين. وعلى عكس ما حصل مع الثورات القومية منتصف القرن الماضي، ليس المطلوب اليوم البحث عن الأيديولوجيا الثورية السحرية وصياغة النظرية الجامعة المانعة، بل تشجيع التعدّد والاستماع إلى كلّ الآراء والحساسيات. وليس المهم أن يلتقي المثقفون حول مشروع فكري، بل أن يساهموا جميعاً بعقلية إيجابية في ديناميكية واحدة هدفها التجديد الفكري لتساير الثقافة الزلزال السياسي الاجتماعي المترتب على الثورات العربية وتستعيد دورها الموجِّه بعد أن غدت مجرد تسلية وترفيه لبعض قطاعاته.