هل يجب أن يؤسس الربيع العربي لثقافة جديدة؟ نعم، وحياة جديدة أيضاً. فثقافة الربيع هي التي تحميه وتعظّم مكاسبه، ويمكن ببساطة قياس ذلك وملاحظته بالتحولات الإيجابية/ السلبية في حياة الناس وسلوكهم الاجتماعي ومستوى المعيشة والخدمات الأساسية، والبيئة العامة المشكلة للثقة والإجماع حول الأولويات والاحتياجات الجديدة المفترض أن تنهض باتجاهها الحكومات والمجتمعات والشركات، لقد شهدنا أعظم فرصة في حياتنا وربما في التاريخ العربي الحديث عندما نهض العرب لأجل حريتهم وحياتهم، وحتى لا يتحول الربيع إلى مهرجان أو احتفال مملوء بالخواء، فإننا بحاجة إلى أن نفكر في مرحلة لعلها أشد قسوة وصعوبة من العمل والمسؤولية التي لم نمارسها (ربما) أبداً في ظل دول الريع والاستبداد والوصاية. إذا كان المشهد الأردني قابلاً للتعميم، فإن الربيع العربي يتحول إلى ما يشبه احتفالات وثنية لتقديم القرابين، أو محاولة لاسترضاء وإشغال الجماهير المتلهفة بإحالة مسؤولين إلى المحاكمة ثم تتحول المسألة إلى عمليات انتقام إعلامي وسياسي وملهاة للمجتمعات والناس وموضوعاً للصالونات وتسلية للمجالس، ينشأ نوع خطير وجديد من الفساد، ويظل الإصلاح الحقيقي وعداً منتظراً، وكأن أحداً لا يريد الاقتراب منه. ولكن المجتمعات بتشكيلها وعياً جديداً ملائماً للمرحلة وتطلعاتها ستكون قادرة على توجيه الحكومات والحراك الاجتماعي والسياسي نحو أهدافها الحقيقية والجوهرية، ويمكن النظر ببساطة وبداهة إلى الثقافة المطلوبة على أساس أنها «وعي الذات المنشئ لتحسين الحياة وزيادة الموارد وتفعيلها وتجديدها» ثم تحويل هذه الرؤية إلى فعل وتشكيل ثقافي ملائم ومنسجم مع التمدن ومجتمعات واقتصاد الأعمال والمهن المعرفة، باعتبار ذلك ببساطة مقياساً للفجوة بيننا وبين العالم المتقدم الذي يتشكل اليوم بموارده وثقافته حول المعرفة والإبداع. وليس المهم في الأداء والإنفاق في المجال الثقافي إلا بقدر ما يكون تحقيقاً لأهداف ثقافية أساسية وضرورية، مثل: ضمان وإنشاء بيئة ثقافية مشجعة للإبداع والفنون الجميلة والمسرح والقراءة والموسيقى والفلسفة، وتعزيز قيم التمدن والتسامح والاعتدال، والحوار والعلاقات الاجتماعية القائمة على الأمكنة والأعمال والأفكار والصداقة، وتعزيز السلوك الاجتماعي المدني القائم على الخصوصية والفردانية، ونبذ الصخب والضوضاء، وتشجيع ثقافة العمل القائمة على الثقة والإتقان، وتشجيع وتعزيز أساليب الحياة في العمارة واللباس والطعام والنقل والتعليم والتعلم والصحة والسلامة العامة على النحو الذي يجعلها أكثر انسجاماً مع الاحتياجات والأولويات المعيشية والجمالية، وتشجيع الثقافة الجمالية وتذوق الجمال وتقديره في الثقافة والأعمال والأفكار والمنتوجات والسلع، والمساهمة في اقتصاد المعرفة القائم على الجمال والإبداع. ويمكن ببساطة ملاحظة الموارد الأساسية المنجزة بالفعل والتي تشجع على تحقيق مثل هذه الإستراتيجية الثقافية، مثل نسبة التعليم الجامعي والثانوي المرتفعة وهي كافية لإنشاء قاعدة اجتماعية للمعرفة والثقافة، وشبكة مدارس وجامعات وخدمات اتصالات ومرافق أساسية كافية لنهضة ثقافية ومعرفية، وإقبال مجتمعي كبير على وعي الحريات والعدالة والتعليم والتدريب. في المقابل، فإننا نعاني من أزمات اقتصادية منشئة لسلوك اجتماعي وثقافي سلبي، وسوق عمل عشوائي لا يقوم تماماً على التنافس العادل والإبداع والتفوق، وأنماط من التدين والتريف والسلوك تضعف أثر الثقافة والتنمية والإصلاح. مجتمعات وبلديات ومنظمات المجتمع المدني منسحبة من المشاركة الثقافية أو ضعيفة وتحتاج إلى تمكين وتأهيل، ونعاني أيضاً من وجود قطاع خاص منسحب من المسؤولية الاجتماعية والمشاركة في العمل الثقافي، وإقبال على الإنفاق والتبرع يذهب معظمه الى مجالات غير ثقافية ولا يجد العمل الثقافي حافزاً لاستقطاب المتبرعين. ولكنا نملك فرصاً معقولة للإصلاح الثقافي يمكن ملاحظتها في الشبكة العالمية القائمة اليوم من الاتصالات والمعرفة المتاحة والتواصل العالمي والمحلي تتيح المجال لبرامج ومؤسسات وأعمال ثقافية وإبداعية بتكاليف قليلة، وفي نمو الاقتصاد القائم على المعرفة والإبداع ما يعزز دور الثقافة والمواهب والفنون في الاقتصاد والأعمال والسوق. «الحكمة تنادي في الخارج في الشوارع تعطي صوتها، تدعو في رؤوس الاسواق في مداخل الابواب في المدينة تبدي كلامها» (سفر الأمثال في العهد القديم، الإصحاح 1). * كاتب أردني