منذ تأسيس منظمة «يونيسكو» قبل خمسة وستين عاماً وحتى اليوم ينظر إليها بحساسية سياسية، إذ دارت بين جدرانها وفي كل قاعة من قاعاتها معارك سياسية لبست أثواب الثقافة تارة والإعلام والاتصال تارة أخرى، في وقت تُرك التعليم وتركت العلوم لتكون الديكور الذي يعطي المنظمة هويتها وسبب وجودها، من منطلق أن حين كانت الحروب تنشأ في عقول البشر، فمن التعليم والتعاون العلمي تبنى جسور التفاهم وقيم التعاون التي تقرب الأمم والشعوب، كما ورد في استهلال ميثاق ل «يونيسكو»، ليحول ذلك التعاون وتلك القيم دون اندلاع حرب كونية ثالثة، قد لا تترك أخضر ولا يابساً أو إنساناً أو أثراً للإنسانية. غير أن المنظمة بعد أقل من عام على احتفالية تأسيسها في لندن، أو لنقل بعد أقل من عام على سكوت المدافع وتوقف آلاف الطائرات عن دك مدن ألمانيا وإيطاليا ومدن أوروبية أخرى، ناهيك عن تدمير مدينتي هيروشيما وناغازاكي - وجدت نفسها في مقرها الجديد في باريس وقد أصبحت محفلاً لسجال أيديولوجي أطلقت الولاياتالمتحدة الرصاصة الأولى فيه. تلك الرصاصة، التي تحولت فيما بعد إلى وابل من الرصاص، سميت بمبدأ «التدفق الحر للمعلومات». ذلك المبدأ الذي حاربت الولاياتالمتحدة من أجله - ومن ورائها دول أوروبا الغربية وكندا وأستراليا واليابان - يقضي بأن على «يونيسكو» أن تسعى كل جهدها وتكيف برامجها ونشاطاتها لكي لا يكون هنالك أي عائق أمام تدفق المعلومات - وفيما بعد الأخبار والبرامج الإعلامية - إلى كل مكان في الكرة الأرضية، من منطلق أن التدفق الحر للمعلومات يعيق التفاهم والمعرفة اللذين من أجلهما - من بين أهداف أخرى - أنشئت «يونيسكو». رأت الولاياتالمتحدة في ذلك المبدأ - المتوافق مع أيديولوجيتها المبنية على مفهومي «دعه يعمل» و «دعه يمر» - واحداً من أمضى أسلحتها السياسية والاقتصادية في آن واحد. من الناحية السياسية استخدم ذلك المبدأ ليدشن حرباً باردة أرادت أميركا من ورائها إضعاف وإحراج وتقليص نفوذ القوة الكونية الأخرى، الاتحاد السوفياتي والدول التابعة له والدائرة في فلكه. ومن الناحية الاقتصادية رأت الولاياتالمتحدة أن تدفق سلعها الإعلامية والثقافية - وكانت الأكثر إنتاجاً وتصديراً لتلك السلع - يتطلب إزالة كل الحواجز الأيديولوجية والاقتصادية الحمائية. سمي مبدأ «التدفق الحر للمعلومات» عقيدة سياسية، كما سمي حصان طروادة، ووصف بأنه ذريعة للهيمنة الإعلامية والثقافية، وووجه بمقاومة شرسة من المعسكر الشيوعي ومن دول عدم الانحياز في ما بعد، كما بشكوك من فرنسا التي تحتضن «يونيسكو»، خصوصاً أثناء فترة رئاسة شارل ديغول؛ ولكن ذلك كله لم يعق تقدم سير ذلك المبدأ وتثبيت أقدامه في «يونيسكو»، ومن خلالها السعي إلى إرسائه كمبدأ كوني تنصاع له معظم دول العالم. أتى ذلك الانصياع بعد جهود متواصلة ومساعٍ مثابرة على مدى اثنتين وثلاثين دورة من دورات المجلس التنفيذي للمنظمة، بين عامي 1946 و1962. ولتتوج الولاياتالمتحدة تلك الجهود - الجبارة بالفعل - ولتحول ذلك المبدأ إلى حقيقة ملموسة في واقع الأمم والشعوب، أقنعت المنظمة بأن تستعين بعدد من الخبراء الأميركيين البارزين في أبحاث الإعلام والاتصال، ليتولوا بتكليف منها - أي من المنظمة - إجراء بحوث مسحية في عدد من الدول النامية والأقل نمواً، من أجل مساعدتها - في المحصلة الأخيرة - على الاستخدام الأمثل لوسائل الإعلام من أجل التنمية. ومن هنا ظهرت أعمال بحثية إعلامية اعتبرت قواعد معيارية لدول العالم طوال عقد الستينات من القرن الماضي، أولها بحوث أستاذ الإعلام والخبير الأميركي لوشيان باي التي نشرت في كتابه الشهير «عبور المجتمعات التقليدية»، الذي صدر عام 1959، ثم أعقبه عام 1962 كتاب «وسائل الإعلام الجماهيرية» لأستاذ الإعلام الأميركي ويلبر شرام، الذي يفوق الأول شهرة وتأثيراً في سياسات المنظمة الرامية لجعل مبدأ «التدفق الحر للمعلومات» أمراً واقعاً ومتطلباً لا بد منه لكل دولة عضو تسعى إلى تحقيق مستويات متقدمة في طريق التنمية. الاتحاد السوفياتي ودول عدم الانحياز - ومن ضمنها الدول العربية - انتظرت حتى مطلع السبعينات لتبلور ردها على ذلك المبدأ الأميركي - أو العقيدة الأميركية الغربية - وتبدأ معركة مضادة، عنوانها «النظام الإعلامي الدولي الجديد». وبعد عامين من إطلاق أولى «رصاصات تلك المعركة - أي في عام 1974 - وجد المطالبون بذلك النظام الإعلامي الدولي الجديد في السنغالي أحمد مختار أمبو - الذي انتخب مديراً عاماً للمنظمة في ذلك العام - نصيراً صلباً لهم. استعرت تلك المعركة - وكانت معركة أيديولوجية وسياسية حقيقية - طوال ست سنوات، ولم تهدأ إلا قبيل انصرام عقد السبعينات بشهر واحد، بعد أن قبلت الأطراف المتصارعة تشكيل فريق دولي من أبرز خبراء الإعلام آنذاك - ومن بينهم الخبير العربي التونسي مصطفى المصمودي - برئاسة رئيس وزراء إرلندا الأسبق سين مكبرايد. وبعد سنة من العمل على تشخيص وضع انسياب المعلومات في العالم - بما في ذلك الأخبار والتقارير الإخبارية والبرامج... قدم الفريق تقريره إلى المؤتمر العام ل «يونيسكو» عام 1981، ونشر التقرير في ما بعد في كتاب عمَّت شهرته الآفاق، في عنوان «أصوات متعددة وعالم واحد». ومن أبرز ما ورد في التقرير الإقرار بأن هنالك بالفعل خللاً في تدفق المعلومات والأخبار والبرامج الإعلامية لمصلحة دول الشمال على حساب دول الجنوب، وإن شئت، لمصلحة دول الغرب على حساب بقية دول العالم. وكإقرار ضمني من الدول الغربية بأن مبدأ التدفق الحر للمعلومات قد تجاوز حدود المقبول في المجتمع الدولي، وبأن هنالك بالفعل خللاً وعدم توازن كبيراً في تدفق المعلومات لمصلحة دول الشمال ودول الغرب عموماً، تم التوصل إلى حيلة قصد منها أن تكون مسكناً لذلك الخلل، ولإسكات تلك الأصوات داخل «يونيسكو» التي لم تشأ التوقف عن اتهام الدول الغربية بالسعي إلى ديمومة ذلك الخلل. تلك الحيلة أخذت شكل «البرنامج الدولي الحكومي لتنمية الاتصال» IPDC، وهو برنامج مختص - أشبه ما يكون بمنظمة دولية مصغرة - تحتضنه «يونيسكو»، بهدف بناء قدرات الدول النامية والأقل نمواً في مجال الإعلام والاتصال، لتمكينها من المشاركة الفعلية في تبادل المعلومات والأخبار والبرامج مع بقية دول العالم. وإضافة إلى ذلك البرنامج الدولي الذي يتكون من 39 دولة منتخبة من بين الدول الأعضاء في ال «يونيسكو»، أنشئ في العام التالي برنامج آخر، حمل اسم «البرنامج العام للمعلومات» أو (بعم)، بهدف مساعدة الدول النامية والأقل نمواً في مجال قواعد البيانات والأرشيف وحماية المحفوظات الوطنية. ولكي تبرهن الدول الغربية حسن نيتها، قام بعضها - وعلى مضض - بتمويل برامج مشاريع مساعدات صغيرة (بالفتات) من خلال البرنامج الدولي الحكومي لتنمية الاتصال في عدد من الدول الأفريقية والآسيوية ودول أميركا اللاتينية، والدول العربية: عشرة آلاف دولار لهذا المشروع في نيكاراغوا، وخمسة آلاف دولار لذلك المشروع في النيجر، وثلاثة آلاف دولار لمشروع ثالث في دولة عربية وألف وخمسمئة دولار لمشروع في جزيرة ناورو، مع ضجيج يدفع السامع إلى الظن أن الأمر يتعلق بمئات الملايين من الدولارات. وفي ما بعد دخلت دول أخرى مثل كوريا الجنوبية وإسرائيل على الخط وقامت بتقديم بضع منح دراسية، بعضها يتعلق بتزويد دول أجهزة حاسب آلية والتدريب عليها، وبعضها الآخر لتنظيم دورات تدريبية في الفنون الإعلامية من أجل السلام والتسامح... وفي المقابل، تزايدت وتيرة ربط تمويل مشاريع صغيرة تمنحها الدول الأوروبية - خصوصاً الدول الإسكندنافية - لعدد من الدول النامية بالتقيد بأولويات الدول المانحة، مثل المساواة بين الجنسين في الممارسة الإعلامية، وتعزيز القدرات الإعلامية للأقليات الدينية والعرقية ودعم التعددية في التعبير في وسائل الإعلام. ذلك الربط المتزايد في العقدين الماضيين كان يقابل باستياء الدول المستفيدة، إذ ترى فيه تقديماً لأولويات الدول المانحة على حساب أولوياتها الوطنية الفعلية. غير أن ذلك البرنامج الذي يقوم بنشاطاته حتى اليوم تعرض لهزة كادت أن تصيبه في مقتل، ولمَّا يمضِ عامان على إنشائه. والسبب هو انسحاب الولاياتالمتحدة وبريطانيا من المنظمة في عامي 1983 و1984 على التوالي، ومعهما توقف تسديد ما يقرب من ثلث موازنة المنظمة. ولكي لا ننسى، نذكر انسحاب سنغافورة معهما في تلك الفترة. السبب المعلن الأول لانسحاب الولاياتالمتحدة وبريطانيا هو اتهام المنظمة بأنها أصبحت أداة سياسية في يد دول المعسكر الاشتراكي ودول عدم الانحياز التي كان الغرب ينظر إليها على أنها كتلة يسارية التوجه. والسبب المعلن الثاني هو أن عدداً من الدول في الكتلتين السالفتي الذكر استمر في المطالبة بإرساء قواعد نظام دولي جديد لا في مجال الإعلام فقط، بل في مجال الاتصال أيضاً. والسبب المعلن الثالث هو اتهام المدير العام للمنظمة، السنغالي أحمد - أو أمادو - مختار أمبو بالفساد والمحسوبية والتنفع من منصبه الدولي. في واقع الأمر لم يكن أي من الأسباب الثلاثة السابقة السبب الحقيقي لانسحاب الولاياتالمتحدة من المنظمة، ومقاطعتها شبه المطلقة ل «يونيسكو» طوال ثمانية عشر عاماً. السبب الحقيقي كان القدس وللإيضاح ينبغي التذكير بأن مدينة القدسالشرقية التي تضم معظم القدس القديمة بكل ما تشتمل عليه من معالم أثرية وتراث عمراني وثقافي أدرجت على قائمة التراث العالمي عام 1981، بعد أن قبلت لجنة التراث العالمي طلباً تقدمت به الأردن، حينما كانت في ذلك العام عضواً في اللجنة، وحظي الطلب بتأييد غالبية الدول الأعضاء في لجنة التراث العالمي وأعلن عن تسجيل الموقع خلال المؤتمر العام ل «يونيسكو». سُجِلت القدس القديمة على قائمة التراث العالمي، على رغم معارضة الولاياتالمتحدة وبريطانيا وإسرائيل واستماتتها لإجهاض ذلك. الأدهى من ذلك حدث في العام التالي، حينما نجحت الدول العربية الأعضاء في لجنة التراث العالمي في تسجيل القدس القديمة على قائمة التراث العالمي المعرض للخطر. هذان الأمران تزامنا مع العامين الأولين لرئاسة رونالد ريغان الولاياتالمتحدة الأميركية، وزاد الأمر سوءاً ومرارة للولايات المتحدة وإسرائيل أن الدول العربية الأعضاء في المجلس التنفيذي في العام التالي 1983 - وبتأييد كبير من الدول الأعضاء في المجلس التنفيذي - نجحت في جعل المجلس التنفيذي يتبنى مشروع قرار لجعل القدس بنداً دائماً على جدول أعمال المجلس التنفيذي لمنظمة «يونيسكو»، والمجلس التنفيذي هو الهيئة المنتخبة من الدول الأعضاء، ويتكون من 58 دولة تحصل على العضوية لمدة أربع سنوات أثناء المؤتمر العام الذي يعقد كل عامين، وفي كل مؤتمر عام للمنظمة يخرج نصف دول المجلس، وتفوز بعضويته أو بإعادة الانتخاب لعضويته 29 دولة. المهم في الأمر أن بموجب مشروع القرار الذي تم إقراره في المؤتمر العام للمنظمة آخر عام 1983 يتوجب على المدير العام تقديم تقرير كل ستة أشهر عن حالة مدينة القدس القديمة، بما فيها المسجد الأقصى وملحقاته من مكتبات ومبانٍ تاريخية وشوارع ومعالم وأزقة... يسجل فيه ما يقع عليها من تعديات وأعمال تخريب - أي أعمال التهويد، بما فيها حفر أنفاق تحت المسجد الأقصى تهدد أساساته، وما يرتكب بحق معالمها الدينية والثقافية من جرائم، وكلها انتهاكات للمواثيق الدولية، ومن ضمنها ميثاق «يونيسكو» واتفاقية التراث العالمي لعام 1972. وكيل وزارة الإعلام السعودية، سفير المملكة السابق لدى «يونيسكو»