أقرّت منطمةُ الأممالمتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونيسكو)، قبل أيام، خمسةَ قراراتٍ تقدّمت بها المجموعةُ العربية، عارضتْها إسرائيل والولاياتالمتحدة بشدّة، إلى حدِّ تلميحِ الأخيرةِ إلى سحبِ مساهمتِها في موازنةِ المنظمة الدولية، غير أنَّ المندوبين العرب نجحوا في جمعِ أصواتٍ لازمةٍ لتمريرِ القرارات، والتي تتعلق بالحفاظِ على الهويّة والتراثِ الثقافيِّ للقدس، وبالحفرياتِ بجوار بابِ المغاربة في المسجد الأقصى، ورفضِ تسجيل مسجدي بلال بن رباح والإبراهيمي في لائحةِ التراثِ اليهودي، وإرسالِ اليونيسكو بعثةَ تقويمٍ ثقافيةٍ إلى الجولان السوري المحتل، وعقدِ جلسةٍ للمعلومات حول الاحتياجاتِ التعليميّة في قطاع غزة. ووصف مندوبُ إسرائيل في اليونيسكو يوم جلسةِ التصويت بأنه «أسود»، واتّهم المجموعة العربية في المجلس التنفيذي (58 عضواً) للمنظمة الدولية بأنّها مارست «ضغوطاً وترهيباً مدرسياً». يجدرُ التنويهُ، في شأنِ هذا النجاح العربي، بجهودِ مندوبي السعودية ومصر والمغرب في شرحِ القرارات للدول الأعضاء في المجلس التنفيذي وكسبِ التأييد لها، وبجهودِ مندوبِ الأردن الذي تقدمت بلادُه بمشروعي قراريْن من الخمسةِ، يوجب أحدُهما على اليونيسكو أن تتعاملَ، باعتبارها إحدى الوكالات المتخصصة للأمم المتحدة، مع قرارِ محكمةِ العدلِ الدوليّة عدم قانونيةِ وشرعيةِ جدارِ الفصل الإسرائيلي، وغيرِه من الإجراءاتِ الإسرائيليّةِ الأُحاديّةِ في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة، من منطلقِ إلزاميّة القرار، وبالتالي، اعتبار أيِّ دراسةٍ أو تقويمٍ أو تفويضٍ بأيِّ مخططٍ إسرائيليٍّ حول تلةِ بابِ المغاربةِ غيرَ قانوني، لكونِه صادراً عن سلطة الاحتلال، وهي إسرائيلُ التي يطلبُ القرارُ منها التعاونَ فوراً بما يسمحُ بوصولِ خبراءِ الأوقافِ الأُردنيين إلى موقعِ تلةِ بابِ المغاربة، لاستكمالِ دراسات فنيّةٍ لازمةٍ لإنجازِ التصميم الأردنيِّ لإعادة بناءِ جسرِ التلة. ويشدّدُ القرارُ الثاني على قلق المجلس التنفيذي لليونسكو العميق إزاءَ أعمال الحفرياتِ والتنقيبِ الإسرائيليةِ في محيط المسجد الأقصى والقدس القديمة، ويشدّدُ أيضاً على قلقِ المجلسِ من الممارساتِ الإسرائيلية في القدسالشرقية، والتي تهدّدُ الطبيعةَ الخاصّةَ للقدس وهويتها الثقافية والتاريخية وتركيبتِها الديموغرافيّة، ويدعو المدير العام لليونيسكو إلى تعيينِ شخصيةٍ رفيعةٍ ممثلاً للمنظمةِ في القدسِ الشرقيّة. وإذا كانَ في محلهِ وصفُ يومِ التصويتِ على القراراتِ الخمسة بأنه يومٌ أبيض في اليونيسكو، بحسبِ مندوبِ السعودية زياد بن عبدالله إدريس، فإنّه يومٌ أبيضُ أيضاً لعملٍ عربيٍّ جدّيٍّ ومنسّقٍ في معركةٍ مع العدوانيّةِ الإسرائيليةِ في ساحةٍ دوليّةٍ حسّاسة. لم ينجح هذا الجهدُ فقط في صدِّ إرادةِ المحتلِّ الإسرائيليِّ لإلحاقِ التراثِ الثقافيِّ الخاص للقدسِ المحتلة به، بل استطاعَ أيضاً أنْ يَكسرَ إرادةً أميركيةً ضاغطةً وذات تأثيرٍ كبير في دعمِ المحتلِّ في محاولتهِ السطوَ على الطابع الثقافيِّ المتنوعِ للمدينةِ المقدسة. والجوهريُّ في هذا النجاح أنَّ العمل من أجلِه رمى التسليمَ القدريَّ باستضعافِ العربِ أمام القدراتِ السياسيّةِ لأميركا، واختبرَ إمكاناتِ حوارٍ ثقافيٍّ، وسياسيٍّ بالضرورة، مع دولٍ تهجسُ بتواصلٍ مع الثقافة العربية، ومع الاشتباك الفلسطينيِّ مع حالةٍ احتلاليةٍ مقيتة. وعوينَ في الأثناءِ انكشافٌ أميركيٌّ جديدٌ في التواطؤ السافرِ مع العدوانيّةِ الإسرائيليةِ ضد شأنٍ حضاريٍّ عربيٍّ وإسلامي، في زمن باراك أوباما الذي أطلقَ، في القاهرةِ مثلاً، كلاماً وفيراً عن وجوبِ علاقةٍ سويّةٍ بين الولاياتالمتحدة والعالم الإسلامي. ومما يعنيه التوازي بين النجاح العربي والانكشافِ الأميركي، في واقعةِ التصويتِ على القراراتِ الخمسة، أنَّ رهاناتِ العرب في المحافلِ الدوليّة، يحسنُ أن تستندَ أولاً إلى إمكاناتِهم الخاصّة، وإلى تعظيمِ صلاتِهم مع الدول الأخرى، قبل البناءِ على أوهامٍ بشأنِ خطابٍ أميركيٍّ موسميٍّ أو عابر. ومعه الحقُّ زياد الدريس في قولِه إنَّ التصويت لمصلحة القرارات انتصرَ لهيبةِ اليونيسكو واحترامِها وحيادِها، ففي البال ما يتبدّى، منذ سنوات، من ضعفٍ في صوتِ المنظمةِ في مواجهةِ استهدافِ الاحتلال الإسرائيليِّ المقدساتِ الإسلاميّة والمسيحيّة في فلسطين، واعتداءاتِه على مآثرَ تاريخيةٍ وعمرانية، وتدميرِه مؤسساتٍ تعليمية، وتسميمِ أجواءِ تعليمِ التلاميذِ الفلسطينيين، بالإضافةِ إلى إجراءاتٍ مقيتةٍ يقترفُها ضد كلِّ مناشطِ تطويرِ حياةٍ ثقافيةٍ ناهضةٍ للفلسطينيين. وفي شأنِ القدس، وكما أبانت تفاصيلُ المعركةِ من أجلِ إصدارِ القراراتِ الجديدة، يتبدّى في محلّه قولُ وزير الثقافة المصري فاروق حسني، لصحيفة «الإمارات اليوم» (4 تموز/ يوليو، 2009) إنَّ «أميركا وإسرائيل تعتبران المرحلةَ المقبلةَ في اليونيسكو مرحلة القدس، أو بمعنىً أدق، مرحلةَ تسجيلِ القدسِ كأثرٍ إسرائيليٍّ ضمن قائمةِ التراثِ العالمي، في إطارِ تصفيةِ القضيّةِ الفلسطينية، وإيجادِ واقعٍ جديدٍ على الأرضِ في أثناءِ عملياتِ التفاوض». وكانت قولة حسني هذه في أثناءِ حملتِه الانتخابيةِ التي نافس فيها على موقع مدير عام المنظمة الدولية، وعملت الولاياتُالمتحدة على أنْ يفوزَ أيُّ أحدٍ إلا حسني، وقد قال لصحيفة «المصري اليوم» بعد خسارتِه (26 أيلول/سبتمبر، 2009) إنّهُ يعتقدُ أنّ هويةَ القدس كانت الأساسَ في الصراعِ الذي جرى على المنصب، ما إذا كانت عربيّةً أم لا. النجاحُ العربيُّ المستجدّ موصولٌ بنجاحٍ سابقٍ للمجموعةِ العربيّةِ في المنظمة، ولمصرَ خصوصاً، في عرقلةِ مشروعِ «الأُخدود الإفريقيِّ العظيم» الذي طرحتهُ إسرائيلُ أمامَ لجنةِ التراث العالمي في اليونيسكو، ويَعتبرُ دولَ الأخدودِ الممتدِّ من وادي الأردن وحتى جنوب إفريقيا وحدةً ثقافيّةً واحدة، ما يُمكّنُ صيغةَ اختراقٍ إسرائيليٍّ لإفريقيا في ثوبٍ ثقافي، وما يضعُ القدسَ في إطارٍ ثقافيٍّ جغرافي، يُبعدُها عن اعتبارِها قضيةً في الصراعِ العربيِّ - الإسرائيلي. ولمّا كان موضوعاً على القدس في خرائطِ اليونيسكو ووثائقها نجمةً تعني أنَّ لا صاحبَ لها، فذلك يسوّغُ لإسرائيلَ محاولةَ انتزاعِ نسبةِ المدينةِ والآثار فيها إلى الدولة العبريّة. وإذا كانت موجةٌ من تفاؤلٍ شاعت مع انتخاب البلغارية إيرينا بوكوفا مديراً عاماً لليونسكو بأنَّ المنظمة الدولية ستنشطُ في تفعيلِ حضورِها في غيرِ موضوع، فذلك يوجبُ على المجموعةِ العربيّةِ في إداراتِها وتشكيلاتِها العملَ على إحداثِ اندفاعةٍ مطلوبةٍ في جهودِ بشأن قضايا ملحّةٍ متصلةٍ بالموضوع الثقافيِّ العربي، والإسلامي أيضاً، لا سيما أن ولايتي المدير السابق للمنظمةِ الدوليةِ الياباني كويتشيرو ماتسورا شهدتا حالةً كبرى من الترهل والبطء، جعلتها ضعيفةَ الحضورِ في تأديتها مهماتها. ويصابُ بذهولٍ من يطالعُ الدراسة الموثقة في «لوموند ديبلوماتيك» (النشرة العربية، 31 أيلول 2009) للصحافيّة غابرييل كابلا، ففيها حقائقُ عن فسادٍ كبير وإهدارٍ كثير وانهيارٍ إداري واسع، ظلَّ يحدثُ في اليونيسكو تحت إدارةِ ماتسورا الذي جعلها في فوضى مهولة. ومن فوائدَ للعربِ نجمت عن حملةِ ترشّح فاروق حسني، العام الماضي، فهي تذكُّرُهُم أهميّة اليونيسكو كساحةِ اشتباكٍ ثقافيٍّ في العالم، وإن تظلَّ منظمةً «تحتاجُ إلى إعادةِ نظرٍ إبداعيّةٍ، شاملةٍ وجذريّة، في سياساتِها وخططِها وأهدافِها وممارساتِها»، على ما كتبَ أدونيس مرّة. وأياً يكن التشخيصُ الوافي للحالة هذه، فإن شيئاً من الغبطةِ غشيَنا، ونحن نلحظُ إمكانية نجاحٍ عربيٍّ في خوض معركةٍ غير هيِّنةِ الأسلحةِ في منظمةٍ دوليّةٍ كانت في محطاتٍ سابقةٍ ساحةَ مواجهاتٍ عالمثالثية مع نزعاتِ هيمنةٍ غربيّةٍ وأميركيّة، من تفاصيلها انسحابُ الولاياتالمتحدة من اليونيسكو بين 1983 و2003، والبادي أنّ جولاتٍ من المواجهاتِ العربيّة مع إسرائيل استؤنِفَت فيها، يتبدّى الاصطفافُ الأميركيُّ شديدَ الانكشاف. * كاتب فلسطيني.