مأساة العراقيين في القرن الحادي والعشرين من جراء الاحتلال الأميركي وما أعقبه من مآس وكوارث لا تختلف بشيء عن مأساة الهولوكوست لليهود ونكبة 1948 للفلسطينيين، فقد ذاق العراقيون مرارة الكأس وبشاعة الموت والعذاب والفقر والتشرد. وصل العراقيون بعد تسع سنوات عجاف إلى نهاية حقبة الاحتلال الأميركي الذي وصف من قبل حكومة بغداد بأنه يوم «وفاء». وفاء من لمن؟!، هل هو وفاء أميركا للساسة العراقيين بتدمير الدولة العراقية؟! أم هو وفاؤهم بتسليم البلاد بالكامل لمرجعيتهم السياسية التقليدية في طهران؟! أم وفاؤهم بقتل وتشريد الملايين من أبناء العراق؟! أتساءل عن مدى دقة تصريحات مسؤولين أميركيين وصفوا انسحاب قوات بلادهم من العراق ب «المسؤول»، فهل تنصل المحتل الأميركي من مسؤولياته الأخلاقية والقانونية وربما رفع الوصاية الأميركية جزئياً أو كلياً عن الملف العراقي تاركين خلف ظهورهم الملايين من الشهداء والجرحى والمعاقين واليتامى والأرامل والمشردين يوصف بالمسؤول؟! هل إعلان الإدارة الأميركية سحب قواتها من العراق يعتبر إنهاء فعلياً للاحتلال مع بقاء سفارة تعد الأكبر من نوعها في العالم، بآلاف الموظفين والمنتسبين والمتعاقدين الأمنيين! وهل انسحاب قوات الاحتلال الأميركي كاف لرد اعتبار العراقيين؟! يأتي قرار «الهروب» الأميركي من العراق في وقت تُحترق فيه البلاد بفوضى الخلافات السياسية ويغيب الأمن والاستقرار بسبب عدم وجود مؤسسة عسكرية مهنية قادرة على حماية حدود البلاد من التهديدات والتدخلات الخارجية، وعدم جاهزية قوات الأمن والشرطة للحفاظ على الوطن والمواطن من الجهات العابثة بالاستقرار، مع تعاظم نفوذ «الاحتلال» الإيراني وهيمنته على كل مفاصل الحياة العراقية وصناعة القرار الحكومي واحتمالات التدخل العسكري إذا ما اقتضت ضرورة ذلك بسبب تحولات المنطقة الجذرية وتغيرات ملامح الأطر الاستراتيجية فيها. في ظل هذا المشهد المتشعب والمعقد فهل من المنطق أن نسمي انسحاب القوات الأميركية الغازية من العراق بالمسؤول؟! استناداً إلى القراءات الواقعية للأحداث الجارية نستنتج أن العراق باقٍ تحت وطأة نفوذ الاحتلال حتى بعد انسحاب القوات الأميركية، قد يتفق أو يختلف البعض على هذه القراءة، لكن مع بقاء سفارة بحجم السفارة الأميركية في العراق وعشرات الشركات الأمنية المتعاقدة على حمايتها حيث عدد عناصرها بالآلاف مزودين بأحدث الأسلحة والتكنولوجيا العالية التي دخلت حيز الاستخدام في حروب المستقبل، يحملنا على القول أن نفوذ الاحتلال وتحركاته لا تزال موجوده على الأراضي العراقية، ناهيك عن استمرار الاحتلال الإيراني وتعاظم نفوذه وقوته بعد انسحاب القوات الأميركية. فأحد القادة الإيرانيين يؤكد أنهم صاروا أصحاب النفوذ الأقوى في العراق. حينما نصف الانسحاب الأميركي بغير المسؤول فمعنى ذلك أن هناك من يتحمل نتائجه الوخيمة. لا شك في أن حكومة المالكي تتحمل مسؤولية أخلاقية وتاريخية أمام الشعب العراقي فهي لم تتكلف عناء المطالبة بتعويض العراقيين جراء ما لحقهم من كوارث ومآس بسبب الاحتلال ولم تتكلف عناء مطالبة المحتل بالاعتذار إلى الشعب العراقي جراء الغزو والاحتلال غير المشروع، واكتفى المالكي بشكر الأميركيين على احتلالهم العراق وسماه يوم الوفاء! وكأنهم وفوا حقاً بوعودهم الوردية التي قطعوها للعراقيين أثناء الغزو وبعد الاحتلال بأن يجعلوا العراق نموذجاً للديموقراطية يحتذى به في المنطقة. تلك الديموقراطية التي تكشف زيفها واتضحت حقيقتها السوداء، فأي ديموقراطية يتبجح بها ساسة العراق الجدد في ظل الأرقام الفلكية للشهداء والأرامل والأيتام والمعتقلين والمعذبين والمعدومين؟! وأي ديموقراطية تصدر في زمنها العراق مراكز متقدمة عالمياً بتردي مستوى الحياة العامة وتزايد نسبة الفقر بشكل مهول وازدهار الفساد والرشى والمحسوبية؟ أي ديموقراطية والإنسان العراقي أصبح هدفاً سهل المنال لكل من هب ودب من خارج الحدود؟ أي ديموقراطية والملايين من العراقيين شُردوا في دول الجوار والعالم باحثين عن ملاذ آمن لهم ووطن بديل؟ هذه الأسئلة أطرحها على ساسة العراق الجدد وحكامه فهل بإمكانهم الإجابة عنها بصدق وأمانة؟!