هناك شبه إجماع من جانب الخبراء المعنيين بالشؤون العربية ودراسة النظم القائمة في المنطقة على أن التطور السياسي كان يمضي دائماً بمعدل أقل بكثير من مناطق أخرى في العالم، فعلى رغم ثروات المنطقة وحيازة بعض دولها أرقى التقنيات وآخر الاختراعات، إلا أن النمط التقليدي لأنظمة الحكم العربية قد أصاب بعضها بالترهل والجمود الناجمين عن شيخوخة الحكم، فالقذافي حكم أكثر من أربعين عاماً، ومبارك حكم قرابة الثلاثين عاماً، وبن علي كاد يصل في حكمه إلى ربع قرن. إن هذا النمط من الحكام كان هو الترياق الذي صحَّت به الثورات العربية وتحركت بسببه صوب الميادين الكبرى لتسقط الأنظمة القائمة التي جثمت على صدور شعوبها من دون تداول للسلطة أو دوران للنخبة. وقد اجتمع الثنائي اللعين على تلك الدول العربية وأعني بهما «الاستبداد» و «الفساد» معاً نتيجة التزاوج بين السلطة والثروة بينما كانت الشعوب مغلوبة على أمرها مقهورة في ديارها، ونحن إذ نتطلع إلى مرحلة مختلفة وواقع عربي جديد يخرج بنا من حالة السيولة السياسية والإعلامية التي تجتاح معظم الدول العربية وتجعلها في حالة من عدم اليقين الواضح وكأنما هي تتطلع نحو كل الاتجاهات في مفترق طرق لا تعرف أين تسير! وقد بدأ البعض يقفز بالأوهام متحدثاً عن المؤامرة الكبرى التي تقف وراء ظاهرة الربيع العربي وكأنما الشعوب مسلوبة الإرادة وأن الأمور تتحرك فيها بفعل قوى خارجية ومؤثرات أجنبية! وعلى رغم أنني ممن لا يؤمنون بالتفسير التآمري للتاريخ، إلا أنني أسلِّم بوجود المؤامرة التي تحيكها قوى ضد قوى أخرى، وإلا فكيف نفسر «ديناميات» الصراع الإقليمي والدولي لو أنكرنا وجود المؤامرة عبر التاريخ الإنساني كله منذ أن بدأت الخليقة، وفي هذا السياق نرصد النقاط الآتية: أولاً: لقد حملت الأيام الأولى لثورة «الربيع العربي» مشاعر متزايدة من التفاؤل واعتبرها البعض طريق الخلاص من سنوات المعاناة وعقود الهوان وزمن القهر، ولكن يبدو أننا كعرب لا نستكمل طريقاً ولا نتمم نجاحاً، فضربت الفوضى في بعض الدول وخرجت من الجحور عناصر بلا اسم ولا هوية وأصبحنا أمام ظرف استثنائي يحاول فيه البعض أن يحقق ما لم يتحقق له في الأوضاع الطبيعية، لذلك انقسم العرب قسمين: غالبية من الشباب تشارك في «الربيع العربي» وتتنسم رائحة أزهاره الفواحة، وقسم آخر يضم أجيالاً سابقة لها تجربة أعطتها الخبرة وممارسة طبعت عليها الحكمة وهذا القطاع يتوجس خيفة مما جرى ويرى أن وراء الأكمة ما وراءها ويتصور أصحاب هذا التحليل أنه ليس من قبيل المصادفة أن يحدث ما جرى في خمس أقطار عربية خلال شهورٍ قليلة وأنه لا بد من أن هناك مخططاً يمكن تسميته ب «سايكس بيكو» الثانية، خصوصاً أن العرب تعودوا من الغرب دائماً نزعة الاستغلال والرغبة في التقسيم، إذ إن نياته تاريخياً لم تكن خالصة تجاه الغير بدءاً من عصر «الكشوف الجغرافية» مروراً بعصر «الظاهرة الاستعمارية» وصولاً إلى عصر «الأقمار الاصطناعية». ثانياً: إن التصريحات التي ترددت منذ سنوات عدة وكان أكثرها وضوحاً ما قالته وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس حول «الفوضى الخلاقة» قد أصبح يجد صداه اليوم لدى الكثيرين واستفاق معظم العرب لتحليل تلك المقولات التي ترددت منذ سنوات على ضوء الأحداث الأخيرة التي وقعت، وأضحى لدى البعض انطباع بأن الغرب وإسرائيل يحاولان حصاد نتيجة ما جرى وأن دماء الشهداء الطاهرة في الثورات العربية يمكن أن تقدم النفط الليبي للاتحاد الأوروبي مثلما قدمت النفط العراقي للولايات المتحدة الأميركية، كما أن إضعاف مصر - قلب العالم العربي - أمر مطلوب، وتحييد باقي القوى العربية هدف استراتيجي يمكن أن يؤدي إلى التفتيت والتقسيم والشرذمة. ثالثاً: لا يمكننا الاستسلام الكامل للتفسير السابق وإلا أصبحنا متحدثين باسم «الثورة المضادة» وانطبق علينا وعلى غيرنا تعبير «الفلول» المستخدم حالياً في الإعلام المصري، وبالمناسبة فنحن ندين بشدة الأنظمة التي سقطت ونرى أنها كانت فاسدة ومستبدة وندرك حتمية الثورات التي اندلعت ولكن حرصنا عليها وخوفنا من إجهاضها هو الذي يدعونا إلى التنقيب في الأسباب المختلفة وراءها والتقليب في الاستفسارات حول الظروف المحيطة بها. إننا أمام منعطف تاريخي ضخم لا بد من أن يكون فيه «سوء التأويل» مثلما فيه من «حسن النية». رابعاً: إن إسرائيل تراقب عن كثب وترصد من قرب ما يدور حولها في العالمين العربي والإسلامي خصوصاً ما يجري في سورية وما جرى في مصر مع عيون مفتوحة على الخطر النووي الإيراني الذي تحاول المبالغة فيه لتبرير أي عمل عدواني تقوم به تلك الدولة العنصرية العدوانية التوسعية ضد العرب والمسلمين، ولا يخفى على أحد أن إسرائيل اعتبرت سقوط النظام المصري تغييراً جذرياً سلبياً يدعوها إلى إعادة النظر في سياساتها في المنطقة، كما أن ما يجري في سورية يدعوها إلى حالة من القلق الذي لن تحسمه إلا سنون مقبلة تستعيد فيها الدولة العبرية توازنها الاستراتيجي بعد الأحداث الجسام التي جرت على الخريطة السياسية في المنطقة العربية، ونحن ندرك أن الأمن الإسرائيلي هو مسؤولية أميركية أيضاً، لذلك فإنها تسعى إلى توريط الغرب خصوصاً الولاياتالمتحدة الأميركية في موقف واحد يبدي سعادته بما يجري في العالم العربي، ولكنه يراجع حساباته بدقة تخوفاً من المستقبل وتحسباً من تداعيات ما جرى. خامساً: يرى بعض خبراء العلاقات الدولية أن الولاياتالمتحدة وحلفاءها يسعون إلى نقل بؤرة الصراع الإقليمي المعاصر من وسط آسيا وغربها إلى منطقة المشرق العربي والشمال الأفريقي، إضافة إلى احتمالات الامتداد أيضاً نحو جنوب الجزيرة العربية وسواحل البحر الأحمر، إذ إن ما يجري في أفغانستان وباكستان، بالإضافة إلى الأوضاع القائمة في إيران والعراق أصبح يدفع إلى التحرك غرباً في اتجاه الشرق الأوسط الذي كان يطلق عليه سابقاً تعبير «الشرق الأدنى» وفقاً للقاموس السياسي البريطاني في غضون الحرب العالمية الثانية وأعقابها. إننا أمام مشهد كبير تتجه فيه الخريطة الجيوبوليتيكية إلى التحول في اتجاه مشروع جديد للسيطرة والاستغلال بديلاً للأنظمة الاستبدادية التي سقطت والمواقع الحاكمة التي تهاوت. إن نقل بؤرة الصراع إلى قلب العالم العربي يعني باختصار أننا أمام مشاهد مختلفة وأوضاع متباينة يتعين علينا تمحيص نتائجها المحتملة. سادساً: إنني لست في موقع يسمح لي باتهام أحد ولكنني أشعر - كما يشعر غيري - أن هناك قوى تسعى للصعود على حساب الثورات العربية ودماء شهدائها الأبرار وهذه القوى تحاول جاهدة أن تحقق ما هو أكبر من طاقتها وأن تشغل حيزاً هو أضخم بكثير من حجمها الطبيعي، ونحن بالمناسبة لا نربط بين قوة الدولة وحجمها السكاني أو موقعها الجغرافي ولكننا نقلق كثيراً عندما نجد بعض المواقف بلا تفسير بل ومتناقضة أحياناً على نحو يجعل فهم الخطوط العريضة لسياسات تلك الدول الراغبة في دور جديد وكبير أمراً يستعصي على الفهم ويتجاوز حدود المنطق العادي. سابعاً: إن العقل العربي مطالب في هذه المرحلة بالسعي حثيثاً من أجل تشكيل رؤية جماعية لمستقبله الواحد وتوظيف العمل العربي المشترك من أجل غدٍ أفضل يتسم بالوعي ويقوم على الصحوة ويسعى إلى موقع إنساني أفضل وإسهام حضاري أكبر إذا كنا نفكر بجدية في مستقبل عربي واعد وفقاً لطرح عصري يضع الوطن العربي في مكانه اللائق بعد طول غياب. تلك قراءة عامة لأوضاع الأمة العربية وظروفها في ظل المتغيرات الكبيرة التي استجدت على الساحتين الدولية والإقليمية... لقد حان الوقت للتفكير جدياً في مستقبل أجيالنا التي لا تزال في ضمير الغيب. * كاتب مصري