من ضواحٍ مختلفة في بيروت توافدوا، وعند مستديرة الطيونة التقوا، وفي مسرح «دوار الشمس» اجتمعوا. تحدثوا وكتبوا وارتجلوا. ثم رفعوا شكاواهم ونكاتهم في كلمات، نقّحوها وعدّلوها وطعّموها بألوان استقوها أحياناً من الأمثال الشعبية والأقوال المأثورة. كلٌّ بدوره، أضاف إليها شيئاً، حتى توصلوا كمجموعة، إلى صيغة مرضية تنقل، وإن بعضاً من مشاهد تعيشها بيروت واللبنانيون عموماً... في كورال غنائي جماعي. هم مجموعة من الشباب جذبتهم مبادرة «مشروع كورال» المواطن، ضمن ورشة عمل أقيمت في مدن عربية، أبرزها القاهرة، وتستقبل كل من يرغب في المشاركة، من دون أية شروط أو الحاجة إلى مهارات غنائية أو فنية، ومن دون أي تمييز طبقي أو ديني أو عنصري أو حتى عمري. ففي هذه الورش، المجموعة هي التي تشكو، وهي التي تختار لنفسها موضوعاً فترفع به صوتها. أما الفرد فيصبح جزءاً منها، يشارك في العمل الغنائي الذي تتوصل إليه، بعد سلسلة جلسات وتدريب يومية ومكثفة لتأليف الأغنيات معاً وتلحينها، تمهيداً لعرض الصيغة النهائية في حفلتين في اختتام الورشة على مسرح «دوار الشمس». يصدح صوت المجموعة وسط المسرح: «عندي إلك خبر مهم، بظل الوضع القاسي، شو هدفو؟ ما بيهم بدي وصّل إحساسي». يتدخل أحدهم للاعتراض، وآخر لاقتراح كلمة جديدة. أما الإيقاع، المطبوع بأنغام الأورغ والدفّ، والملوّن بأوتار الكمان والغيتار، فيستمر، ويبقى الارتجال سيّد الموقف، يُدخل كلمات ويُخرج أخرى... ثم يتابعون: «كل صفحات باسبوري (جواز سفري) خلصت. صار بدي باسبور تاني. فكرك إني غير لونو. لا ليضلّ لبناني». وبإيقاع متقطّع يتابعون في أغنية ثانية: «مش بس بحكي ثلاث لغات، بحكي كمان أفغاني (...) معي خط إيراني (ينقطع) هيدا تشويش أمريكاني». وعن الهجرة التي تشغل غالبية الشباب، و «الأسلوب اللبناني» في التباهي بإتقان لغات ثلاث، وعن الزحمة والمطاعم الإيطالية واليابانية... تكثر اللقطات والمشهديات المرسومة بلغة ساخرة عفوية، تنجح في إبراز بُعد من أبعاد عاصمة مليئة بتناقضات تكوّن شخصيتها. الكاتب والمخرج المصري سلام يسري حضر من القاهرة إلى بيروت لينقل هذه التجربة التي شارك في تأسيسها، بعدما خاضها شباب في القاهرة والإسكندرية، قرروا مواصلة العمل بهدف نشر الفكرة. ويوضح يسري ل «الحياة» أن فكرة «كورال المواطن» أساسها فنلندي، إذ إنها نابعة من قول مأثور في تلك البلاد وهو: «بدل أن تشتكي غنِّ». وسرعان ما راجت الفكرة في مصر، ولاقت «إقبالاً كبيراً بين الشباب، واعتراضاً أكبر من الجهات الرقابية، إذ اعتبر الإعلام أنها تظاهرة على الخشبة، لأن الأمسيات كانت تنقل شكوى المواطن بلغة المواطن اليومية». ويضيف: «أنتجنا في مصر كورال شكاوى القاهرة في أيار (مايو) 2010، وقررنا متابعة المشروع معاً، إنما من دون حصره في الشكاوى». وإذ يؤكد يسري أن المشروع «مستقلّ وتطوّعي ولا تموّله أي جهة بعينها»، وأن «التزام المشاركين نابع فقط من الرغبة في المشاركة»، فإنه يشير إلى أن شركة «إيقاع» التي تتولى الحجوزات في مصر صاحبها لبناني وقرر أن ينقل الفكرة إلى بيروت. ويلفت يسري إلى أن الدراما التي تسيطر على موضوع التدريب، وتمسك به، لا تعبّر بالضرورة عن الوضع الاجتماعي أو الاقتصادي في لبنان، بل عن «حالة المشاركين ومشاعرهم وأحاسيسهم واهتماماتهم ومشكلاتهم وعلاقتهم بمدينتهم. كل ما في الأمر أننا نساعدهم في التعبير عن أنفسهم بأسلوب فني ممتع، أما المحتوى فكان ليختلف لو أن الورشة أقيمت في مدينة لبنانية أخرى». أحضر خلدون (26 عاماً) غيتاره معه، وقد أتى به فضوله، في اليوم الخامس من التدريب، وقال ل «الحياة»: «أنا مجاز في الأدب الإنكليزي، لكنني سمعت عن المشروع وقررت أن آتي لأعرف المزيد. وبعدما شاركت في هذه الجلسة، تمنيت لو انني حضرت الجلسات منذ البداية. أشعر بأن الأغنيات تعبّر عني وعن هواجسي ومشكلاتي وكل ما يزعجني في ما يحيط بي». أما يارا حركة (26 عاماً)، فتتمتع بخلفية فنية، إذ تدرس الغناء الشرقي في «الكونسرفاتوار الوطني». وعلى رغم موهبتها اللافتة وصوتها الهادئ والصلب في آن واحد، لا تحاول أن تحجز لنفسها مكاناً يبرزها من دون غيرها، لأنها تحترم فكرة المجموعة وتستمع إلى آراء الآخرين. بل هي مسرورة «ومتشوقة للحفلة النهائية لأنني أشعر بأنني شاركت في كتابة الأغنيات وتلحينها. أغنيات ولدت على أيدينا تعبّر عنا وعن مشاعرنا وأحاسيسنا وكأنها مرآة تعكس أشياء مما فينا». وعن كتابة الكلمات تقول: «بدأنا بجملة، وراح كل منا يقترح كلمة أو فكرة، وهكذا استسلمنا إلى الارتجال الذي أخذنا في اتجاه لم نكن قد خططنا له أو فكرنا فيه مسبقاً... حتى إن إحدى الأغنيات ولّفناها من أمثال شعبية، عملنا على ترتيبها وفق تسلسل معيّن، حتى بدت أشبه بلطشات تستهدف المسؤولين، وتسخر من الوضع العام للبلاد، فنقول: «حاميها حراميها... ولو بدّا تشتّي كانت غيّمت». مساء غد وبعد غد، سيقف هؤلاء الشباب على خشبة المسرح ليقدموا ما يعتبرونه أشبه ب «أوبريت» كتبوه ولحّنوه بأنفسهم... ولعلها لن تكون حفلة غنائية بمقدار ما سيشعر الحضور بأنها عملية تشاركية وتفاعلية لا فضل لفنان فيها على جمهور، لأن الكل مواطن.