تعيد الأزمة المالية في منطقة اليورو والتدخلات الدفاعية المستمرة التي ينفذها المصرف المركزي الأوروبي لتفادي اهتزاز الاستقرار المالي هناك، فتح نوافذ حوار سياسية ونظرية حول شرعيته ودوره الأوروبي. فلطالما واجه تاريخ المال والائتمان والمصارف المركزية حول العالم تحديات دولية بهدف تحديد نقاط الضعف. وبما أن أزمة اليورو تدق أبواب سويسرا، بدأ خبراء مقارنة سلوكيات المصرف المركزي الأوروبي بما ينص عليه اتفاق «ماستريخت» وقوانينه، ويتساءلون إذا كان الاستقرار النقدي والاستقرار المالي هدفين مستقلين أم لا. وتتجه الأنظار إلى لندن ومصرفها المركزي، بفضل الإصلاحات التي اقترحها ونفذها رئيس الوزراء السابق طوني بلير في تسعينات القرن الماضي، والمستوحاة من جو ثقافي اقتصادي-مالي كان سائداً حينها، إذ كان هم المصرف المركزي التجسّس على سلامة الاستقرار النقدي في البلاد. وكان مديرو «المركزي» يتدخلون كلما ارتفع التضخم فوق السقف المحدد له، أو كلما ارتفعت مؤشرات السلع الاستهلاكية، إلا أن الإصلاحات التي أقرّها ائتلاف بلير كانت صالحة خلال العقد الماضي لا اليوم. لكن ذلك لا يمنع من أن تكون لندن نموذجاً يمكن للمركزي الأوروبي استغلاله. وفي ما خص الجنيه الإسترليني واليورو، كانت الأولوية تنص على عدم تصادم أسعار المنتجات مع التضخم المالي، لكن إلى جانب التضخم المتفشي في أوروبا، هناك عدم استقرار مالي. ويبدو للجميع أن «المركزي» الأوروبي دخل في تفاصيل صغيرة جعلته يبتعد عن مهمته الرئيسة المتمثلة في ضمان الاستقرار النقدي، أي ضمان القيمة الحقيقية لليورو وقوة الشراء لدى المستهلكين. وعلى عكس تحركات «المركزي» البريطاني الرامية إلى المحافظة على فاعلية النظام المالي البريطاني واستقراره وتنافسيته، يرصد الخبراء اليوم سلوكيات غير شرعية للمصرف المركزي الأوروبي. فتكبد خسائر فادحة دفعت بعض مسؤوليه إلى محاولة العودة إلى سياسة مالية قوية كتلك التي تعتمدها بريطانيا. ويتبّع «المركزي» البريطاني تغييرات جذرية لتعميق مسؤولياته ومهامه، كما يسعى إلى توزيع هذه المهام عبر تأسيس لجان ووحدات جديدة لرصد مسار الاستقرار المالي داخل البلد وخارجه. أما «المركزي» الأوروبي فيتخبط في شراء سندات يخشى مراقبون أوروبيون تحديد قيمتها الحالية لئلا تشن وكالات التصنيف الائتمان حملاتها المعتادة لمهاجمته. وفي ما يتعلق بالاستقرار النقدي، أصبح من الصعب تحليل سياسة المصرف المركزي الأوروبي، فيتساءل خبراء لماذا لا يحاول اتباع إستراتيجية نظيريه البريطاني والسويسري، المتمثلة في إضعاف الجنيه الإسترليني والفرنك السويسري لإنعاش الصادرات. ويرى بعض المحللين في البنك الأوروبي مصرفاً اختبارياً، إذ استثمر ما لا يقل عن 700 بليون يورو لشراء سندات خزينة من الدول الأوروبية المتعثرة، وتناسى تثبيت سعر صرف اليورو أمام العملات الصعبة الأخرى، كما فعل «المركزي» السويسري بالفرنك خلال الفترة الماضية.