حين سئلت الكاتبة المكسيكية أمبارو دابيلا إن كانت كتابتها تنتمي إلى الفانتازيا، رفضت ذلك الوصف قائلة إن الوجود يتضمن الظاهر والباطن والمرئي واللامرئي، وهي الإجابة التي يمكننا القول من فرط صدقها إنها مفتاح الولوج لفهم أعمال تلك الكاتبة الأصعب بين كُتَّاب أميركا اللاتينية. الكتابة لديها ليست خلطاً بين الواقع والمتخيل، ولا الحياة وما بعدها، لكنها الإقامة في الكابوس بكل متغيراته المتناقضة إلى حد الفزع، وهو نوع من الكتابة التي تحتاج درجة من الوعي الشديد بكيفية تنامي الخيال إلى حد تتساوى فيه الحياة بما بعدها، وهو ما اتضح من خلال 12 قصة قصيرة تضمنتها مجموعتها «أشجار متحجرة» بترجمة الكاتب والمترجم المصري محمد إبراهيم مبروك عن الإسبانية، والصادرة أخيراً في سلسلة الجوائز بالهيئة العامة للكتاب. ولدت أمبارو دابيلا عام 1928 في قرية بينوس التابعة لمدينة ثاكاتيكاس المكسيكية، بدأت الكتابة في سن العشرين، منجزة ثلاث مجموعات قصصية كانت الأولى بعنوان «حين تقطعت الأوصال» عام 1959، ثم «موسيقى متجسدة « عام 1964، و «أشجار متحجرة» عام 1977، وتوقفت عن الكتابة لمدة ثلاثين عاماً، ثم عادت فكتبت مجموعتها الرابعة « بأعين مفتوحة» التي صدرت عام 2008 بمناسبة عيد ميلادها الثمانين، وقد عاشت طفولة قاسية بقريتها النائية، حيث منجم ومقبرة كبيرة، ومن ثم عايشت الحياة العصيبة التي يعانيها عمال المناجم، وتأثرت بمشاهد تشييع الجنازات بطرق متباينة، مما أضفى نوعاً من الكآبة والكابوسية على مجمل قصصها، فضلاً عن رؤيتها لتجاور الحياة وما بعدها في خيط واحد، وجعل لكتابتها نوعاً من الخصوصية المدهشة حتى تُوِّجت بلقب مايسترو القصة القصيرة. توقفنا قصص أمبارو دابيلا أمام فكرة فلسفية مضمونها أنه لا يوجد خط فاصل بين الحياة وما قد يحدث بعد الموت، مثلما لا يوجد خط فاصل بين الكابوس والواقع، وكأن الحياة مجرد دائرة يتداخل فيها الفيزيقي والميتافيزيقي، المتخيَّل بالمُعاش، والمرئي باللامرئي، وأنه من الوهم تصور وجود هذا الحد أو اليقين بإمكانية الفصل بينهما، ففي قصة «فناء مربع»، لا نعرف إن كانت بطلة القصة تحكي عن واقع حقيقي، حيث انتحر رجل أمامها، وحين ذهب صديقها لإنقاذه بدا وكأنه ذهب هو أيضاً لموته بقدميه، أم أنها تحكي عن عالم من السحر والطقوس الخاصة بالعارفين وأصحاب القدرات الخاصة، أم أنها تحكي عن الحياة التي تعيشها هي بعد الموت في عالم ألواح المعرفة المستورة، لكننا رغم عدم القدرة على اليقين بإجابة محددة نعيش معها نوعاً من التحولات الناعمة، كما لو أننا في كابوس أو حلم دائري، ومن ثم لا نتوقف أمام منطقية التحولات بمقدار ما نستجيب لقدر الخيال المفرط وطرائق تقديمه في قصصها، كما لو أن هذه الكتابة لا تقدم الواقع الذي تعيشه لكنها استجابة لرسالة من العالم الآخر، ويبدو أن هذا ما دفع بصديقها الكاتب المكسيكي « أريولا» لأن يقول إن قطط دابيلا هي التي تكتب قصصها. دائماً الموت حاضر في أعمال دابيلا، وكأنها لا تكتب عن سواه، وهو لا يمثل لديها الفناء، لكنه حياة جديدة، ربما تكون منبع المعرفة الحقة، كما في» فناء مربع»، وكما في «الرسالة»، التي ترسل بها فتاة لحبيبها كي يعرف في نهايتها أنه يمكنه الذهاب إليها حيث ترقد تحت الأحجار، وكما في القصة الأخيرة التي تحمل المجموعة عنوانها «أشجار متحجرة»، حيث إنها بعد رصد طويل لتفاصيل حياتها مع حبيبها تنتهي القصة ب «أتشبث بيديك وعينيك، إنه شديد الوضوح، الصمت الذي يصغي إليه دمنا، الإنارة في الشوارع شحبت، ولا روح حية واحدة تعبر من أي ناحية، والأشجار التي تحيط بنا كانت متحجرة، ربما نحن أموات، ربما نحن أكثر نأياً عن جسدينا». ومن ثم، فالحياة تمثل لها حالة غير مرغوب فيها، كما في قصة «جريسلدا» الجميلة التي مات حبيبها فاقتلعت عينها، وحين عرفت قصتها الفتاة الشقراء التي التقتها في البيت المنعزل في الغابة، قررت الهروب وكأنها رأت ملاك الموت، رغم أنها كانت مستمتعة طيلة القصة بالحكي عن الموتى الذين كانوا يقيمون في هذه الغابة وذلك البيت المهجور. وفي قصة «عنبر النقاهة»، وهو العنبر المخصص للذين تأكد أنهم موشكون على الموت ولا يريد الأطباء إخافة مرضاهم بمشاهد احتضارهم، نجد البطلة لا تفضل في المستشفى كله غير هذا المكان، وتقوم بالحيل كي تتدهور حالتها ولا تفارق رؤية العنبر الذي أصبح أثيراً لديها، حتى تموت في النهاية، والموت هو بحث عن ميلاد لحياة جديدة من المفترض أنها أكثر نعومة وبساطة وراحة، ومن ثم فإن أحداً لا يحزن حين يموت والد «أوسكار» المجنون بطل القصة التي تحمل اسمه، ولا يشعر أحد بتأنيب ضمير حين يشعل أوسكار النيران في البيت، بل إنهم يتركونه داخله ويرحلون إلى قرية أخرى، ولكن يبدو أن منطق الموت في هذه المجموعة مختلف عن منطقه في مجموعة «حين تقطعت الأوصال»، فقد كان إغلاق بطلة قصة «الضيف» الأبواب على ضيف زوجها وتركه يموت جوعاً، حلاًّ لوجوده غير المرغوب فيه. في مجمل أعمال أمبارو دابيلا نفاجأ بتجهيل تام للمكان والزمان، رغم حضورهم القوي من خلال التفاصيل التي تنسجها دابيلا بشكل يصل إلى حد الهندسة المحكمة البناء، ربما يعود ذلك إلى اعتمادها على طاقة الخيال ونشاطها الواضح لديها، وربما لرغبتها في بناء عالم يختلط فيه الواقع بالحلم، ويتناهى فيه الحد الفاصل بين الحياة وما بعدها، لكن بنية الرؤية القصصية لدى دابيلا ككل لا تنبع من منطق السرد القصصي بل تنبع من خلال الطرح الشعري، حيث اللغة الناعمة، وانتقالات السرد من عالم إلى آخر ببساطة ومن دون مقدمات، فضلاً عن هذا الزخم من الخيال الذي يبدأ من الواقع ثم يعلو عنه ثم يعود إليه وكأننا في لعبة دائرية لا تنتهي، وحيث المتخيَّل هو الواقع، والموت هو الحياة، والمرئي هو الغائب، والوقائع التي يفضي بعضها إلى بعض دون روابط منطقية أو شعور بالخلل في البنية الهندسية للعمل، إذ إننا من اللحظة الأولى يتسرب إلينا الاتفاق الضمني باللامعقول، مما يمهد للانتقال السلس من عالم إلى آخر، وهو ما يذكرنا برواية «بيدرو بارامو» لخوان رولفو المدهشة. والمدهش أيضاً أن دابيلا ورولفو كانا صديقين، وكلاهما بدأ حياته الإبداعية بالشعر، ولم يقدم أي منهما غير منجز قليل لكنه كبير القيمة، إلى حد جعلهما علامة فارقة ليس في السرد المكسيكي فقط، ولكن الأميركي اللاتيني ككل، وكلاهما فاز بجائزة بياروتيا المكسيكية في السن نفسه مع فاصل 11 عاماً.