توصل المجلس الوزاري لمنظمة «أوبك» إلى حل وسط، ذي طابع ديبلوماسي تفادى فيه الخلافات السياسية المستعرة بين دول المنطقة، بخاصة بين السعودية وإيران، كما حدث في الاجتماع الوزاري في حزيران (يونيو) الماضي. لكن من الواضح أن الجانب الديبلوماسي طغى على فحوى الاتفاق، بدلاً من التأكيد على التفاصيل النفطية التي ترغب الأسواق عادة في سماعها، وكما هي العادة في اتفاقات المنظمة. ولعل الحل الديبلوماسي الغامض كان أفضل الممكن في الوضع الراهن لاتفاق جميع الأطراف بعد الخلافات الحادة في الاجتماع الوزاري الماضي، حيث لم يستطع المجلس الوزاري الوصول إلى أي قرار، سوى اعتراف بعض المسؤولين علناً بالفشل في التوصل إلى حل توافقي. يكمن غموض الاتفاق الحالي في اعتماد سقف إنتاجي لدول المنظمة بنحو 30 مليون برميل يومياً، من دون تحديد حصص الإنتاج لكل دولة، كما هي العادة. إضافة إلى ذلك فإن سقف 30 مليون برميل يومياً يشمل إنتاج ليبيا «حالياً ومستقبلاً»، وهي تنتج حالياً نحو مليون برميل يومياً، وتنوي إنتاج 1.6 مليون برميل يومياً في حزيران (يونيو) المقبل. كما يشمل الاتفاق الإنتاج العراقي المخطط له أن يرتفع نحو 0.6 مليون برميل يومياً خلال عام 2012، طبعاً. وبما أن اتفاق المنظمة هو على سقف الإنتاج، فمعنى ذلك أن مجمل إنتاج الدول الأعضاء يجب ألا يزيد على هذا المستوى، على رغم إمكانات كل من ليبيا والعراق في زيادة الإنتاج أم لا، أو استمرار الإنتاج الإيراني على مستواه رغم المقاطعة الأوروبية له. إلا أن الأهم هو أن مستوى 30 مليون برمل يومياً، يمثل بالفعل الإنتاج الواقعي لدول المنظمة في الفترة الراهنة، أي أن الطلب على نفوط «أوبك» هو بهذا المستوى فعلاً، وليس نحو 24.8 مليون برميل يومياً كما اتفق عليه في وهران بعد انهيار مصرف «ليمان بروذرز» عام 2008. وقد أكدت السعودية مرة أخرى التزامها تأمين الإمدادات وفق حاجة الأسواق، أي تلبية الطلب العالمي. لكن المنظمة لم تعبر بصراحة عما ستقوم به في حال تراجع الطلب، أي هل ستخفض الإنتاج، ومن سيخفضه، وكم وما هي نسبته لكل دولة. وبما أن التوقعات تشير إلى انكماش اقتصادي في الدول الأوروبية خلال عام 2012، مع أزمة اقتصادية في الولاياتالمتحدة، فقد تخوفت الأسواق من هذا الغموض المتعمد في سياسة المنظمة، وانخفضت أسعار النفط كرد فعل أولي على ذلك. يشكل الاتفاق في فيينا، بكل وضوح، حقيقة واضحة هي ثقل وقوة السعودية في منظمة «أوبك» والساحة النفطية العالمية، المتمثل في كل من مستوى الإنتاج العالي، بل أهم من ذلك، في الطاقة الإنتاجية الفائضة المتوافرة لهذه الدول، بخاصة السعودية. وحاول كل من إيران وفنزويلا تفادي هذه الحقائق في الاجتماع الوزاري السابق، ففشل الاجتماع. وكان يمكن أن تستمر الرياض في السياسة التي اتبعتها بعد اجتماع حزيران، لكنها تدرك، وكذلك دول أعضاء أخرى، أهمية التوصل إلى توافق في «أوبك» على المدى الطويل. وبعكس ما كان يحصل سابقاً عند الخلافات بين دول المنظمة، بقي إنتاج الدول الخليجية يلبي الطلب العالمي ولا يغرق الأسواق. وخير دليل على ذلك استمرار مستوى الأسعار فوق 100 دولار للبرميل، والصادرات الإيرانية نحو 2.50 مليون برميل يومياً، والريع السنوي لإيران نحو 100 بليون دولار. ومعنى ذلك، أن الخلاف لم يكن من اجل تحطيم الأسعار، بل لمصلحة الدول النفطية الكبرى في توازن العرض والطلب باستمرار ووفق تفاوت الطلب، بحيث لا يتأثر بالخلافات السياسية المزمنة بين الدول المصدرة والمستهلكة. لا شك في أن قرار فيينا سبقه الكثير من المشاورات ما بين الرياض وطهران، كما أن من الواضح أن الأمين العام للمنظمة عبد الله البدري قد لعب دوراً مهماً في التوصل إلى هذا الحل التوافقي. وخير ما يعكس نجاح هذه المفاوضات هو اتفاق فيينا، لكن أيضاً تصريح وزير النفط الإيراني رستم قاسمي، الذي أكد للصحافيين بعيد الاتفاق، إن القرار «يعكس العلاقات الحميمة والصديقة مع السعودية». تلجأ منظمة «أوبك» عادة إلى الحلول «العامة» و «الغامضة» عندما تخفق في الوصول إلى اتفاقات تفصيلية بإجماع الدول الأعضاء. والأسواق على دراية بهذه الأمور، لأنها تتابعها بدقة، ومن ثم تحاول خفض الأسعار لعدم ثقتها بهذا النوع من القرارات التي لا تلزم الدول الأعضاء بحصص محددة. وبالفعل، انخفضت الأسعار بعيد انتهاء الاجتماع. لكن، نعتقد أن هذا القرار، على رغم عمومياته، يصاحبه أيضاً تفاهم سياسي - نفطي بين الدول المنتجة الكبرى، وأنه ثمرة محادثات بين الدول المعنية، على الخطوط الكبرى. كما يجب ألا ننسى أن منطقة الشرق الأوسط حبلى بمجموعة من التطورات السياسية التي قد تؤثر على إمدادات النفط: «الربيع العربي»، المقاطعة الأوروبية للنفط الإيراني (وكذلك السوري)، تقارير الأممالمتحدة عن البرنامج النووي الإيراني، وانسحاب القوات الأميركية من العراق. ومن المتوقع أن تؤدي هذه التطورات منفردة أو مجتمعة إلى اضطرابات في الإمدادات، وزيادة المضاربات، ومن ثم احتمال استمرار الأسعار على مستويات عالية. * مستشار في نشرة «ميس» النفطية