سيُتِم الأميركيون انسحابهم من العراق في نهاية الشهر الجاري، بعد احتلال لهذا البلد دام أكثر من ثمانية أعوام، عانى خلالها العراق التدمير الكامل للدولة، ولبنية مؤسساتها السياسية والخدمية، وخلّف تأثيراً كبيراً جداً على مستقبل العراق السياسي في المجالين الإقليمي والدولي، كما خسرت، من خلال ذلك الاحتلال، الولاياتالمتحدة الأميركية بلايين الدولارات التي كان لها التأثير القوي جداً على نمو ومستقبل الاقتصاد الأميركي، وانعكس على قدرتها في التأثير السياسي الدولي، وعلى مركز الولاياتالمتحدة الأميركية كقطب أوحد في السياسة الدولية، لم تحظَ به دولة في تاريخ البشرية منذ انهيار الإمبراطورية الرومانية. كان الجمهوريون أيام الرئيس جورج بوش الابن يعارضون الانسحاب الأميركي، خشية تداعيات ذلك الانسحاب على المنطقة بشكل عام، وعلى مصالح الولاياتالمتحدة بشكل خاص، مثل تعاظم الخطر الإيراني وتزايد نفوذه في العراق، وتغلغل الإرهاب وانتصاره، إضافة إلى تحول العراق إلى دولة فاشلة، بسبب عدم قدرة الولاياتالمتحدة الأميركية على مساعدتها في اجتياز المرحلة الصعبة، وخلق فوضى الشرق الأوسط تنعكس سلباً على المصالح الأميركية، وفسح المجال لدخول قوى كبرى طامحة لتحل في المنطقة، ما يعزز انحسار التأثير العالمي لقوة الولاياتالمتحدة الأميركية. وقد عززت براين نيلتون (Brian Knowlton) في صحيفة النيويورك تايمز (New York Times) في 28 - 8 - 2007، قلق الجمهوريين ومعارضتهم للانسحاب من خلال خبر بعنوان «تحذير بوش من تداعيات الانسحاب الأميركي من العراق على استقرار الشرق الأوسط»، إذ لخص الخبر قلق الرئيس وإدارته في حال الانسحاب، بتزايد تأثير ونفوذ المتشددين الإسلاميين من «القاعدة»، والآخرين المدعومين من إيران في الشرق الأوسط، ومن ثم نجاح إيران في برنامجها النووي وهيمنتها على المنطقة من خلال هيمنتها على العراق، مهددة المصالح القومية الأميركية. وبعد وصول أوباما للرئاسة، كان من وعوده الانتخابية إعادة القوات الأميركية من العراق، وسحبها للتركيز على مطاردة فلول «القاعدة» في أفغانستان والقضاء على قادتها، إذ حققت الولاياتالمتحدة بعضاً من أهدافها بالقضاء على زعيم القاعدة أسامة بن لادن في هجوم على مقر إقامته السري في باكستان، والتركيز على الانسحاب من العراق في نهاية عام 2011، وهو ما تحقق حتى الآن، من خلال مباشرة القوات الأميركية بانسحابها تجاه الكويت، ولذلك سيكون لهذا الانسحاب أثر كبير على الأوضاع الإقليمية والدولية، إضافة إلى انعكاسه على الوضع الداخلي الأميركي، خصوصاً أنه يأتي في بداية الحملة الانتخابية لرئاسة الولاياتالمتحدة الأميركية. بالنسبة للأوضاع الإقليمية، يعتقد الكثير من المحللين والخبراء، أن إيران ستكون المستفيد الأول من الانسحاب الأميركي، إذ نجح حلفاؤها المعارضون لصدام حسين في قيادة العراق، تنفيذياً وتشريعياً، ولذلك ستتعزز علاقاتها مع القوى السياسية التي تقود العراق الآن، ويمكن أن تصل هذه العلاقة إلى مرحلة التحالف بين البلدين، بينما خسرت الدول العربية، خصوصاً دول مجلس التعاون الخليجي في العراق، ما يعزز القول إن علاقات دول مجلس التعاون الخليجي مع العراق بعد الانسحاب ستشهد فتوراً، من الممكن أن يصل إلى حد التوتر، خصوصاً مع الكويت بسبب إنشاء ميناء مبارك، الذي كان مثار توتر وجدل بين الكويت والعراق، كما أن العلاقة مع تركيا ستحكمها تطورات الوضع في إقليم كردستان العراق والعلاقات مع إيران والأوضاع في سورية. ما يتعلق بالأوضاع الدولية، ستكون الولاياتالمتحدة الأميركية الخاسر الأكبر في العراق، حتى ولو اتفقت مع الحكومة العراقية الآن على بنود معينة للتعاون الاقتصادي والسياسي والعسكري، فالمستقبل لا يضمن لها استمراراً في التحالف القوي مع العراق والاعتماد عليه، إذ إن القائم بين الدولتين الآن هو تفاهم، فمن الممكن أن يتحول هذا التفاهم إلى عداء في أي لحظة، وأعتقد أن الولاياتالمتحدة خسرت جميع الأطراف في العراق، فالسنة عانوا منها وقاوموها خلال الاحتلال، وأنقصت من حقوقهم السياسية، من خلال قانون المحاصصة الطائفية الذي فرضته في العراق، وكذلك حل الجيش العراقي، الذي كان غالبية قادته منهم، أما الشيعة فهم يناصبونها العداء، على رغم كل ما قدمته لهم، بحجة أنها كانت تدعم صدام حسين، وكذلك دور التأثير الإيراني عليهم، إضافة إلى الأقليات الأخرى كالمسيحية والتركمانية التي تعاني من الخوف والقلق على مستقبلها، ولذلك تبدو خسارة أميركا واضحة، على رغم وجود أكبر سفارة للولايات المتحدة الأميركية في العراق. مستقبل العراق بعد الانسحاب سياسياً ينذر بتصارع حتمي للقوى السياسية على القيادة، لأن هذه المؤسسات السياسية تعتمد على مصالح طائفية وحزبية، ولذلك نرى بعض التنازلات من بعض القوى السياسية تجاه بعض المواضيع السياسية المهمة، كالوضع في إقليم كردستان العراق من ناحية الاستفتاء على استقلال الإقليم، وضم مدينة كركوك الغنية بالنفط إليه، وهو ما يقلق الكثير من أبناء العراق بأن التنازل عن الإقليم هو بداية لتفكك العراق، خصوصاً أننا نشهد مطالبات عدة باستقلال الكثير من الأقاليم إدارياً، وهو ما أطلق عليه «الأقاليم الفيديرالية»، التي يعززها شبه الاستقلال لإقليم كردستان. لقد انسحبت الولاياتالمتحدة بعد أن قضت على قوة العراق العسكرية، إذ لا يوجد لديه الآن قوة جوية، إضافة إلى أن الجيش غير محترف وضعيف التسليح، ما يجعل الفرصة مواتية لجهات خارجية لتدريب وتسليح الجيش العراقي من جديد، وبحسب المبادئ التي تحددها المؤسسات السياسية المسيطرة الآن، كما أنها قضت على اقتصاده والبنية التحتية لذلك الاقتصاد، خصوصاً قطاع الإنتاج وبعض المصانع التي كانت تنتج السلع الاستهلاكية، إضافة إلى أن قطاع النفط لم يشهد تطويراً يجعل من هذا القطاع رافداً واعداً لمساعدة العراق في الوقوف على رجليه. ستنسحب الولاياتالمتحدة الأميركية من العراق نهاية الشهر، تاركة العراق من دون رجعة، وستحل دول محلها اقتصادياً وسياسياً للاستفادة من إعادة البناء الاقتصادي والعسكري، قوى أخرى، كإيران التي سيكون لها النصيب الأكبر، وروسيا والصين وبعض الدول ذات الاقتصاديات الناشئة. قال أوباما الأسبوع الماضي في مؤتمر صحافي مع نوري المالكي «إن التاريخ سيحكم على قرار خوض الحرب في العراق»، والسؤال المطروح هو: أي حكم سيكون؟! * أكاديمي سعودي. [email protected]