إذا كانت الأحداث السياسية الكبرى تنتج أبطالها، فإن التغطيات الإعلامية لهذه الأحداث، بخاصة التلفزيونية، تصنع بدورها نجومها البارزين. فمع بداية مد الثورات العربية، تحول بعض مراسلي القنوات التلفزيونية الأوروبية في الشرق الأوسط إلى وجوه بارزة على شاشات قنواتهم، ليقدموا فقرات تحقيقية طويلة من مدن عربية أضحت مفتوحة في شكل غير مسبوق للعمل الإعلامي الحر، ومن دون مضايقات السلطات الأمنية. ومن الوجوه الإعلامية الهولندية التي برزت أثناء ثورات «الربيع العربي»، الصحافية والمختصة بالشؤون العربية إيسمرالدا دي بون، والتي تنقلت في مدن ودول عربية عدة، لتقدم من هناك متابعات، ولقاءات إخبارية لمصلحة برامج الأخبار في القنوات التلفزيونية الهولندية الرسمية. ولتتحول بعد عودتها إلى هولندا، إلى «خبيرة» بالشأن العربي، تتسابق البرامج الحوارية على استضافتها، خصوصاً أن الصحفية، ليست غريبة عن المنطقة العربية، فلقد أمضت هناك فترات زمنية طويلة أثناء دراستها اللغة العربية. وأخيراً عادت إيسمرالدا دي بون إلى الدول والمدن العربية التي عملت فيها لأشهر في بداية هذا العام، لتسجل من هناك «حياة» ما بعد الثورات، وتقدمها في برنامج من ست حلقات بعنوان «ما وراء الربيع العربي»، يعرض كل يوم أحد على شاشة القناة التلفزيونية الهولندية الثانية. ليكون البرنامج التلفزيوني الأول أوروبياً في هذا المجال. رفيق بالقوة في الحلقة الأولى من البرنامج، تعود الصحافية إلى اليمن، والتي تجد أن الأوضاع لم تتغير كثيراً، عندما يتعلق الأمر بتضييق الخناق على الصحافيين الأجانب. فالسلطة هناك حتى وإن كانت فقدت الكثير من قوتها، ما زالت تتحكم بالمطار، والداخلين إلى البلد، فتجبر الصحافية الهولندية على اصطحاب رجل أمن يرافقها في جولتها في أراضي البلد. يكشف البرنامج سريعاً أن هذه السلطة الشكلية هي لحفظ ماء الوجه فقط. فشوارع مدينة صنعاء مقسمة بجدران حقيقية، بين موالين ومعارضين للرئيس اليمني علي عبدالله صالح، وما زال المعارضون يفترشون الساحات والشوارع للمطالبة بتنحي الرئيس (صوّر البرنامج قبل الاتفاق السياسي الأخير لنقل السلطة). وتعود إيسمرالدا دي بون في الحلقة الثانية من البرنامج إلى ليبيا، والتي كانت صورت فيها برامج عدة أيام الثورة الليبية العارمة. تلتقي الصحافية هذه المرة السائق الذي رافقها في أيام تغطيتها الأولى، والذي يطلعها على صور التقطها بنفسه لمعركة طرابلس، ولبعض رفاقه الذين قضوا في تلك الأيام. يبحث البرنامج عن القصص التي لا تحظى عادة باهتمام وسائل الإعلام الشعبية، كعودة المغتربين الليبيين الذين قضوا عقوداً خارج ليبيا. فتزور مقدمة البرنامج عائلة أحد هؤلاء المغتربين، وتنقل من هناك «الأمل» الذي تملكه هذه العائلة بمستقبل مختلف لليبيا. كذلك يلفت البرنامج الانتباه إلى مشكلة السلاح في ليبيا، والتي تعد الآن واحدة من أسباب الأمن الهش هناك. ويطرح البرنامج سؤال «الأسلحة» على رجال الثورة السابقين، وعلى شباب عاديين. لتكون الإجابات بعيدة كثيراً عن المطمئنة، فالمجتمع الليبي، وكما بدا في البرنامج الهولندي، غير مستعد حالياً للتخلي عن سلاحه. نساء ونساء لكن الذي يميز البرنامج هو تلك اللقاءات التي تجريها المقدمة مع نساء عربيات من مختلف الطبقات الاجتماعية. إذ تبذل المقدمة جهوداً صادقة للتقرب من العالم النسوي في الشرق الأوسط، والذي اختفى من الشاشة أحياناً، بخاصة في أوقات حروب الشارع المسلحة. ويلاحظ هذا خصوصاً من اللقاءات المؤثرة في الحلقتين الأوليين: ذلك الذي تم مع سيدة يمنية مثقفة، تملك شكوكاً ومخاوف كبيرة من المستقبل، بسبب التراجع المخيف للحريات النسوية في عهد الحركات الإسلامية المتشددة. فتنقل السيدة، بأن الأشهر الأخيرة شهدت اغتيالات عدة طاولت نساء، بعضهن غير معنيات أبداً بالسياسية. في حين يكشف لقاء آخر من ليبيا مع معلمة وعائلتها كانت تقضي إجازة العيد في منطقة جبلية، عن أملها بالمستقبل، وكيف سيكون لتغيير منهاج التعليم في ليبيا، الأثر المهم في تدشين عصر جديد. من خلال حلقات هذا البرنامج تؤكد الأحداث الأخيرة في الشرق الأوسط (الانتخابات المصرية، والاتفاق السياسي في اليمن، وأحداث سورية المتواصلة) أن من المبكر كثيراً الحديث عن «زمن» ما بعد الثورات العربية. فالحراك السياسي والاجتماعي في دول الربيع العربي ما زال على أشده. لذلك، تبدو عسيرة جداً مهمة البرنامج الهولندي بتقديم وثيقة صورية تدوم طويلاً. لكن هذا لا يؤثر في قوة بعض المشاهد واللقاءات التي قدمها البرنامج، وفي الجهد النبيل لإيصال صورة واقعية صادقة لما يجرى في شوارع مدن «الربيع العربي».