صحيح أن القذافي مات والقذافية انتهت وبقيت ذيولها، لكن الغوص في تاريخ مؤسسها وسلوكياته يحقق فوائد جمة، والسلوكُ قبل السلطة يُخبَّر عنه بعدها، وهو في الصِّغَر يخبَّر عنه في الكبر، إلا ما ندر. في «الحياة» السبت الماضي، لقاء مهم أجراه الزميل محمد الأصفر من طرابلس الغرب مع الوزيرة الليبية الجديدة فاطمة الحمروش، أجبرني على التوقف عنده، ولتقرأْ معي ما قالته عن سبب تركها لوطنها: «خرجت من ليبيا قبل 17 سنة (عام 1996) لمتابعة دراستي العليا في طب أمراض العيون، وكانت فرصة لي لكي أبتعد عن الوطن قليلاً، لمَا كنت أشعر به من حزن وإحباط بسبب ممارسات النظام الظالمة وبسبب انتشار الفساد وتدهور الخدمات الطبية والتعليمية، ما حال دون مقدرتي على تحسين مستواي الوظيفي، إضافة إلى تفاقم الأوضاع المتعلقة بحقوق الإنسان. كانت رغبتي في الهجرة تزداد يوماً بعد يوم، لكي ابتعد عن تلك الأجواء السيئة، وكنت أبحث عن فرصة للهجرة، فسنحت لي حين حصلت على قرار إيفاد للدراسة العليا في إرلندا. كنت آمل بأن أرجع إلى ليبيا بعد إتمام دراستي العليا إذا تحسنت الأوضاع، لكن الأمور تدهورت باطّراد، وكنت أقف على هذا التدهور المقيت كلما عدت إلى الوطن لزيارة أسرتي، قبل أن أتوقف عام 2003 عن زيارة ليبيا» انتهى. ولا شك في أن واقع الحال هذا هو حال عرب كثيرين من مختلف البلاد العربية. تتباين درجات هاجس الهجرة بسبب الأوضاع السياسية والاقتصادية الداخلية من بلد لآخر، إلا انه هاجس منتشر وعميق. الشاهد هنا ليس فقط فاطمة، طبيبة العيون ابنة الضابط العقيد عبدالله الحمروش -في العهد الملكي- الذي كان القذافي ملازماً تحت إمرته، وتروي عنه (القذافي) فاطمةُ موقفاً مهماً يخبر عن شخصيته، حينما كان ملازماً صغيراً مسؤولاً عن كتيبة من الجنود، الذين سقط واحد منهم خلال التدريب فاقداً للوعي بسبب ارتفاع درجة الحرارة، فأمر الملازم القذافي بقية الجنود بمواصلة تدريبهم والدوس على الجندي المسكين. تم وقتها تقديم القذافي «الملازم» لمحكمة عسكرية يترأسها العقيد عبدالله الحمروش، وحُكم عليه بالسجن في غرفته عشرة أيام، وهي أخف عقوبة. وحينما اغتصب القذافي السلطة بعد ذلك، حَكَمَ على الحمروش، وفي «ليلة الانقلاب»، بالسجن ثلاث سنوات وسبعة اشهر من دون تهمة أو محاكمة، ولاحَقَه بقية حياته. تتذكر وزيرة الصحة الليبية نَدَمَ والدها على حكمه المخفف ذاك، وكيف كان يتمنى لو طرد القذافي من الخدمة العسكرية، فلربما كان ذلك سيغير مستقبل ليبيا ويجنبها ومواطنيها أربعة عقود من العذاب. لا تغيِّر الحرباء جلدها بل تكتفي بتغيير لونه www.asuwayed.com Twitter | @asuwayed