لم يعرف تاريخ الفكر الفرنسي كاتباً كره بلاده فرنسا، قدر ما كرهها غوبينو. ولئن كان صاحب كتاب «دراسة حول التفاوت بين أعراق البشر» قد عرف دائماً بعنصريته المعلنة، والتي أسست من دون أدنى ريب للفكر العنصري النازي حتى وإن كان يصعب على كثر من الفرنسيين الإقرار بهذا، فإن عنصريته توجهت اول ما توجهت، ضد الفرنسيين، وليس تماماً ضد الشعوب «الدنيا» الأخرى - في نظره - أي ضد الشعوب الملونة. ويقيناً ان تلك النوعية من العنصرية ضد الملونين لم تكن عملة رائجة في أيامه، بل من المعروف ان زوجته التي أحبها أول أمره وأنجبت له ابنته الوحيدة، كانت خلاسية سمراء اللون. فإذا اضفنا الى هذا كله ان غوبينو، كان منذ شبابه المبكر، مولعاً بالشرق وبالإسلام، اذ كان أحياناً يحلو له ان يرتدي ثياباً شرقية ويقول عن نفسه انه مسلم، وإذا اضفنا أيضاً ان هذا المفكر الفرنسي، الذي لعنه التاريخ، أولع كثيراً بمصر منذ زارها وأمضى فيها شهوراً، وأعلن دائماً انه عاش أحلى سنوات حياته في فارس التي ألّف عنها وعن تاريخها كتاباً مهماً، يصبح ما لدينا من هذا الرجل مجموعة من التناقضات التي تبدو، ظاهرياً، عصيّة على الحل أو على الفهم. ذلك ان هذا، كله، ما كان يمكنه ان يكون منطقياً بالنسبة الى مؤلف سبق في كتابه الرئيس الذي نتحدث عنه هنا، صموئيل هانتنغتون في التشديد على صراع الحضارات، في مجال التفاوت العرقي لا الديني. ونقول ان التناقض يبدو ظاهرياً - ونؤكد مسألة الصورة الظاهرية للأمر هنا -، لأن غوبينو، كما أسلفنا وجه نزعته العنصرية ناحية تمجيد الشعوب الآرية، ذات الامتداد الجرماني المعاصر، اكثر كثيراً مما وجهها ناحية الشعوب الأخرى. وبالنسبة اليه كان يعرف ان جذور الآرية موجودة في فارس والمناطق المحيطة بها وأن الآريين اندفعوا ذات حقب من التاريخ في اتجاه الشمال ثم الغرب ليشكلوا بالتدريج الشعوب التي استوطنت القارة الأوروبية او بالتحديد المناطق الشمالية التي كانت في تلك الأزمان خالية خاوية على عكس المناطق الأوروبية الجنوبية والمتاخمة للبحر الأبيض المتوسط التي، هي، كانت مأهولة بمن سيصبحون أغريقاً ثم لاتيناً، ومن هنا استناداً الى تلك المعرفة نجد غوبينو وقد تتبّع كل التداعيات الباقية، التي سنخلص منها الى النتيجة التي عبّرنا عنها أولاً، وهي ان ما كان يحكم فكر غوبينو، انما كان اعتباره الشعوب اللاتينية المعاصرة، وعلى رأسها الشعب الفرنسي - شعبه أصلاً - شعوباً دنيا بالمقارنة مع الجرمان أحفاد الفارسيين الآريين. وهو في هذا الاطار يعتبر السيد والملهم للإنكليزي الذي تحول الى ألماني، هاوستون ستيوارت تشامبرلن (1856-1927) الذي كان، في اتّباعه خطى غوبينو، المؤسس الحقيقي للفكر العنصري النازي. وفي هذا الاطار، يمكننا هنا ان نقول ان تشامبرلن كان، تلميذاً حقيقياً ونجيباً لكتاب «دراسة في التفاوت...» الذي صار في نهاية أمره كتاباً في أربعة أقسام، متفاوتة الأسلوب والنوع، وإن كانت موحّدة الهدف والاتجاه. أما الجزآن الأولان من هذا الكتاب فقد صدرا في عام 1853 وأما الجزآن الآخران ففي عام 1855. علماً ان الكتاب نفسه شكّل قسماً أول من رباعية ضمت لاحقاً، وفي المنحى نفسه، رواية وكتاب رحلات، وكتاباً سيصبح بدوره شهيراً لغوبينو ومرجعاً في موضوعه وهو «تاريخ الفرس». اذاً، في كتابه الأساسي والمهم «دراسة في التفاوت...» يبدي غوبينو قناعته بأن المسألة العرقية هي صانعة التاريخ ورافعته الأولى، انطلاقاً من فكرة تقول إن تنوعية الأعراق التي تشكل أمة واحدة تكفي وحدها لتفسير مصائر الشعوب. وفي هذا الاطار، يسهب غوبينو في دراسة «النتائج التي تسفر عنها اضافة بعض الجماعات البشرية أبعاداً جديدة طارئة على تاريخ البلد الذي تقيم فيه: ذلك ان هذه المجموعات «تأتي، بفعل تغلغلها المباشر في حياة السكان المحليين وعوائدهم، بتبديلات مباغتة». وهكذا، اذا كانت المجموعات أدنى حضارياً - وهذه هي الحال في معظم الحالات - تكون النتيجة انحطاطاً للشعوب الأصلية، تخط معه حضارتها. وهكذا ينطلق غوبينو من هذه الفكرة ليؤكد ان هناك أعراقاً قوية وأعراقاً ضعيفة. ثم يركز بحثه على الأولى دارساً تصرفاتها، متراجعاً في الزمن من أوضاعها الحالية حتى جذور جذورها ليخلص الى أن «كل ما هو عظيم ونبيل ومثمر على وجه البسيطة إنما هو من نتاج مخلوقات بشرية، تعود في جذورها الى عائلة واحدة تمكنت فروعها المختلفة من ان تحكم مختلف مناطق الدنيا. والمؤلف، بعد دراسته لهذه الظاهرة، يصل الى ان العائلة الآرية هي التي تشكل في نظره جذر الجذور هذا. ويسهب هنا في التحليل قائلاً ان فروع هذا العرق هي التي لا تزال تهيمن حتى الآن - أي حتى زمنه، اواسط القرن التاسع عشر - ولكن، للأسف، «في كل مرة يحدث فيها تقاطع بين هذا العرق وبين الأعراق المهزومة التي يضطر العرق الأعلى لحكمها، يحدث تدهور في سمات الآريين لمصلحة الشعوب الأسفل». والمثال الذي يقدمه غوبينو لنا هنا يتعلق بالفن حيث يلاحظ كيف ان «الفنون الآرية تنحدر عبر الاختلاط بالفنون الزنجية». ومن هنا يرى غوبينو ان عالم اليوم مسكون بكائنات هجينة. ولكن... اذا كان العرق الآري الصافي قد اختفى من على وجه البسيطة، فإن في إمكاننا ان نعثر على أفراد آريين متميزين، حفظتهم العناية الإلهية لكي يكونوا شهوداً على وجود عصر ذهبي سابق. وهؤلاء يسميهم غوبينو «ابناء الملك» ويفرد لهم روايته «الثريات» التي تشكل في الحقيقة الجزء الثالث من رباعيته... والحال ان هذا الكتاب، لم يكن وحده ما جعل غوبينو يعتبر من جانب معاصريه ثم لاحقاً من جانب الأجيال التالية من المفكرين عنصرياً مناصراً للآريين وحدهم، اذ إن مؤرخي حياته يذكرون دائماً ان تصرفاته نفسها كانت دائماً تصرفات ارستقراطي فرداني، يعيش حياته في انتظار معجزة رجوع العصر الذهبي. لكن هذا لم يمنعه من مصادقة دي توكفيل (مؤلف «الديموقراطية في أميركا» بين أعمال أخرى تخلو من عنصرية غوبينو). والحال ان دي توكفيل أفاد غوبينو كثيراً، اذ انه حين صار وزيراً عيّنه في سفارة فرنسا في ألمانيا، ما أتاح لغوبينو ان يعيش حلمه الجرماني عن كثب وأن يعمقه. وغوبينو على رغم انه ولد في الجنوب الفرنسي لأسرة غامضة كان هو يقول انها تنتمي الى نبلاء تعود جذورهم الى قراصنة الفايكينغ، كان يعتبر نفسه ابناً لمنطقة الراين، ومناصراً دائماً لألمانيا. وهكذا، مثلاً، حين استعرت الحرب الأهلية بين الفرساليين وفرنسيي باريس (كومونة 1870) وقف غوبينو ضد الطرفين، حتى الوقت الذي جاء فيه الألمان ليناصروا الفرساليين فبدأ يهاود هؤلاء. وغوبينو عاش بين 1816 و1882. وعرف بكتاباته العنصرية كما أشرنا، لكنه عرف ايضاً كنحات ورسام وروائي ومستشرق ورحالة وديبلوماسي، وكان مثار الإعجاب بذكائه الشديد وثقته بنفسه ومعرفته بكل قديم وتأليهه له. وقد عرف في مرحلة متأخرة من حياته، ريتشارد فاغنر وأعجب بما لمس لديه من ارتباط بجذور الفن الجرماني الخلاق. وقد كان الاعجاب متبادلاً الى درجة ان فاغنر قرأ كل أعمال غوبينو - مثل كثر من الألمان - وجعله ضيفاً دائماً على مهرجانات بايروت، كما ان كوزيما فاغنر شكلت بعد موت غوبينو، جمعية لتخليد ذكراه. [email protected]